زيتون – أسامة عيسى
في زمن الحرب المجنونة، لا شيء يوازي الألم والفقدان لكل غالي، فكيف إذا كان الأم، ومن أغلى منها وجنة الله تحت قدميها، لكنه عيد آخر لـ”ست الحبايب” عند السوريين، يمر من جديد عليهم وهم بعيدين في قسم كبير منهم عن أمهاتهم، فيما أخرون ودعوا العزيزة الغالية إلى غير رجعة، ومضى قسم آخر منهم داخل البلاد وخارجها لمعايدتها في عيدها المصادف اليوم 21 مارس/أذار من كل عام.
في مناطق سيطرة النظام لا تشابه بين عيد الأم هناك وعيدها في مناطق سيطرة المعارضة، ففي حين اختفت من الأخيرة مظاهر العيد المعتادة بالشكل الكرنفالي لها، حيث شراء الهدايا والألبسة والأطعمة، عمت شوارع المناطق الأولى حركة أكثر. في المقابل خلفت ذكرى عيد الام حسرة كبيرة لدى مئات من السوريين، ممن هم الآن بلا أم، بين نازحين في الوطن ولاجئين منه إلى دول الجوار وغيرها من باقي شتات الأرض.
لم تحمل الطفلة سامية لبابيدي، البالغة من العمر 14 عاماً، والمقيمة في سقبا بغوطة دمشق هدية العيد هذا العام لأمها، كما تقول لـ”زيتون”، والسبب في ذلك أنها “استشهدت قبل ستة أشهر، قصفها طيران بشار الأسد عندما كانت تحضر الطعام لنا ولإخوتي، ماتت ومات معها أخي الصغير وبقيت أنا وأبي و3 أخوة”.
وتضيف “اليوم لن أزورها بهدية العيد. البارحة بكيت عليها طوال الليل، كما كل يوم أذكرها. كانت تمسح على جبيني كل يوم، ما عدت أجد من يمسح على جبيني كما أمي، أبي حنون، لكن أمي هي… لا أعرف أمي كل شيء كانت……”.
نعيم شايب، لاجئ سوري في مخيم الزعتري في محافظة المفرق، شرق الأردن، يقول: “اليوم اشتريت لأمي قلابية هدية، أنا لن أجازيها مهما فعلت، سأزورها اليوم ومعي هدية العيد من قبيل جبر الخاطر فقط . أطال الله في عمرها وعمر أمهات كل البشر، لأن الأم ليس كمثلها شيء في هذا الكون”، ويضيف “عمري 55 عام ولا زالت اعتبر نفسي طفلها، أذهب إليها لأضع رأسي على كتفها وتمسح على جبيني لأتنفس من جديد في هذه الحياة القاتلة التي أصبحنا نعيشها..”.
سحر يعقوب، 22 عاماً، المقيمة في جرمانا بريف العاصمة، أمها ماتت بقصف مجهول بإحدى قذائف الهاون التي طالت المنطقة قبل نحو 3 أشهر، تقول إنها ستذهب إلى قبرها اليوم لتعايدها في عيد الأم، وتتابع “قتلوا لي أمي.. هل يعلم القاتل ما تعني الأم، فليسأل ما تعني أمه له ليعرف كم خلف من حسرة في قلبي من لا يخاف الله.. حسرة على أمي التي ليس لي سواها، وحسرة على كل شيء في هذه الحياة”، وتردف بحرقة: “الله لا يسامح كل إنسان تَورّط بدم السوريين…”.
في المقابل، شتات مجنون يعيشه لاجئوا أوروبا من السوريين الذين بلغت أعدادهم مئات الآلاف، غالبيتهم أناس تقطعت بهم السبل في دول القارة العجوز، قسم قليل جداً كانت “ست الحبايب” قريبة عليه في عيد الأم، لكن الغالبية الساحقة عايدوا الأم عن بعد عن طريق “الواتس آب” و”الفايبر” و”السكايب”، وعبر مواقع التواصل التي غصت بالمنشورات والتغريدات التي تحكي ما في نفوس أصحابها من ألم وحنين.
نادين ح. لاجئة كردية من القامشلي، تقول إنها أمضت الليل وحتى طلوع الصباح تبكي على أمها التي بقيت في سوريا، بينما فرت هي وشقيقها وأبيها إلى السويد بانتظار أن يلموا شمل والدتهم، لكنها تروي أنهم لن يحلموا برؤية أمهم إلا بعد سنة ونصف بعد حصولهم على الإقامة، نظراً للتشديدات التي تفرضها هجرة السويد عليهم، وتقول إنها عايدت و أهلها والدتهم عبر “الفايبر”، وأنهم أمضوا فتر الاتصال وهم يبكون.
ومن ألمانيا، البلد الأوروبي الأكثر استيعاباً للسوريين، يقول عزيز الأحمد، وهو طفل قاصر من درعا عمره 14 عاماً، أن أمه “المشلولة” بقيت في حوران، ويؤكد أنه عايدها صباح يوم الاثنين 21 آذار/مارس لكن فقط لخمس دقائق عبر برنامج “السكايب”، ويشير إلى أنه أهداها وردة حمراء قطفها منذ الصباح من إحدى حدائق “هامبورغ” كبرى مدن شمال ألمانيا حيث يقيم، لكنه يغص وهو يسرد مخاوفه من أنه يخشى ألا يراها بعد الآن، والسبب كما يوضح: “لم أستطيع أن أستمر أكثر، تحجّجت بأني لدى أمر طارئ لأنني صرت أبكي… لم أستطع أن أرد عليها عندما قالت لي وهي تبكي علي: متى سأراك يا بعد قلبي.!!”.
في المقابل، سماهر ع. من ريف حلب، التي قضت والدتها قبل أسبوعين، تقول إن مئات المحبين لأمهاتهم سيزورون اليوم قبورهن في عيد الأم، وتضيف: “عشرات الناس غدوا بلا أمهات بفعل هذه الحرب المجنونة، بفعل سفك الدم الذي دمرنا ودمر البلد. سأزور أمي التي توفيت بسبب جلطة اليوم في بستان القصر، لكنها توفيت بعد أن غصت ألف حسرة في قلبها على إخوتي الذين استشهد اثنين منهم وواحد في المعتقل والأخير فر إلى تركيا ومن ثم إلى أوروبا، لم تستطع الصبر فماتت قبل عيد الأم بأسبوعين… أنا الآن سأعايدها هناك عند قبرها وسأفتح الاتصال صوت وصورة لكي يشاهد أخي قبرها كما طلب، لأنه يريد أن يقول لها…”، وتضيف بعد تنهيدة: “..يريد أن يقول كل عام وأنت بخير.. يا أمي….”.
وبين غصّة العيد التي لا توازيها غصّة، وهي تتعلق بالأم، وبين غصة الحياة القاسية التي باتت تطبق على صدورهم نازحين ولاجئين، لا زال السوريون يرددون عبارات الصبر والثبات والدعاء بالفرج، متمنين من الله الخلاص، ومتأملين في هدنة 26 شباط/فبراير 2016م ومفاوضات جنيف أن تكون المنقذ لهم من حرب أحرقت الحجر قبل البشر.