زيتون – أسامة عيسى
“كانت الرابعة فجراً عندما اعتقلوني، كنت نائماً في البيت، اقتادوني إلى مخفر الشرطة في درعا البلد، كان هناك ضابط اسمه الملازم جهاد من دير الزور. بقينا هناك أسبوعاً، كنّا تسعة أطفال، عذّبونا يوميّاً صعقاً بالكهرباء وبالشَبْحْ. من المخفر أخذونا إلى الأمن السياسيّ، بقينا هناك ثلاثة أيّام، تعرّضنا لتعذيب أشدّ… كان التعذيب قاسياً جدّاً، حضر العميد عاطف نجيب (رئيس فرع الأمن السياسيّ بدرعا آنذاك وابن خالة بشّار الأسد) وأمر عناصره بتعليقنا على الجدران وضربنا بشدّة، كان هو يضربنا ويسألنا بعصبيّة: من يقف خلفكم ومن بعث بكم لتكتبوا على الجدران؟ وقال إنّنا (خونة!) لم أكن أعرف ما معنى هذه الكلمة وقتها. بقينا هناك خمسة أيّام، نقلونا بعدها إلى فرع الأمن الجنائيّ وفيه بقينا أربعة أيّام، أيضاً أهانونا كثيراً، كان العقيد أبو جعفر المسؤول هناك. نُقلنا بعدها إلى الشرطة العسكريّة، وفيها كنّا نضرب كلّ ساعة. من ثمّ إلى سجن غرز، ثمّ إلى جمرك درعا قبل أن يفرجوا عنّا”.
جريمة كونيّة
رجفة غريبة بدت على جسد وصوت معاوية الصياصنة وهو يستنهض ذكرياته كطفل في 24 شباط 2011، حين ألقي القبض عليه بتهمة تدوين عبارة (جاييك الدور يا دكتور) على أحد الجدران، ليكون أحد مفجّري الثورة السوريّة. يصمت معاوية ثمّ ينظر في هاتفه الخليويّ، قبل أن يتابع الحديث ويسرد بألم: “كانت ليالٍ سوداء، أشعر بخوف كبير عندما أتذكّرها. جماعة المخابرات عذّبوني، وكأنّي ارتكبت جريمة كونيّة!”.
ولد معاوية صياصنة في 23 آب من العام 1994 في درعا البلد، إحدى مناطق مدينة درعا، على الحدود السورية – الأردنية، وقرب معبر ما يسمى الجمرك القديم جنوب سورية، وهاهو يبتسم اليوم مع اقتراب ما يسمّيه بـ “العيد” أي ذكرى الثورة في منتصف آذار، حين قُرعت أجراسها قبل ستّة أعوام خلت، كان قبلها يحلم بأن يكون طيّاراً ويحدّث أهله أصدقاء طفولته عن ذلك، لكنّ معاوية يستدرك: “يا ليتني لم أحلم بهذا.. كنت أتمنّى أن أكون طيّاراً في بلدي، كنت أحبّ ذلك بالفعل، لكن لم أعد أرغب بهذا الآن؛ لأنّني رأيت كيف يقوم الطيّار بإلقاء البراميل المتفجّرة والصواريخ على المدنيّين، أنا لا أطمح لأن أفعل ذلك.. كلّا.. كان مجرّد حلم طفوليّ وتراجعت عنه.. أنا أكره كلّ الطيّارين الآن!”.
يلخّص معاوية شعوره، وهو يعيش اليوم في منطقة ساخنة تصنّف كمنكوبة في جنوب سورية، وفي عيونه عشرات نقاط الغموض كانت مبعثاً لأسئلة أكبر من عمره الذي قضى منه خمس سنوات طفلاً بلا طفولة حتّى غدا شابّاً، فيقول: “كانت تجربة مرعبة جدّاً”.
طفولة اغتصبتها الحرب
أمضى معاوية الطفل وهو ابن الـ 15عاماً في أقبية أجهزة النظام السوريّ برفقة أطفال آخرين من درعا 21 يوماً تحت مقصلة السلطة، خلالها قامت الثورة، والآن عندما يعود إلى ذكريات ما قبل الاعتقال، مسترجعاً شريط الطفولة، تبدو على وجهه فصول الفرح الممزوج بالأمنيات المستحيلة، ويقول بحرقة: “أتمنّى أن يأتي أبي ليأخذني ويشتري لي.. يلاعبني.. كما كلّ الأولاد”. يحكي معاوية عن والده وكأنّه لم يستشهد في العام 2013 نتيجة قصف طيران النظام السوريّ لبيته. تقاعد عن العمل في العام 2012م فقد كان موظفاً في دائرة المياه لدى الدولة، وها هو معاوية الآن يعيش في ذلك المنزل مع والدته وأشقائه الثلاثة، وشقيقته الوحيدة في غرفتين جرى ترميمهما على عجل من بيته المدمّر، ولا يشعر فيه بالأمان، ففي كلّ لحظة التفاتة، ميمنة، ميسرة، وأيضاً إلى الأعلى، إلى السماء، مترقّباً صوت الطيران. يعود ويحكي بلهفة المتعطّش عن مدرسته، فهو لم يرها منذ عام 2011، لقد خسرها تماماً. قال وكأنّه يجلد نفسه: “كنت طالباً في المدرسة عندما اعتُقلت، وعند الإفراج عنّي لم أعد إليها، لأنّها دُمّرت… صعب جدّاً عليّ حين أتخيّل نفسي بلا تعليم. الآن لا توجد مدارس، كلّ شيء أصبح خطيراً، كلّ شيء اختلف، تغيّر، الحياة، الدمار يملأ البلد، الناس التي تموت، الطفولة، وأنا لم أُسّس شيئاً لنفسي حتّى اليوم. مستقبلي رحل بلا رجعة”.
الثورة حاضرة بمراحلها
أمّا عن الوقت الراهن فيقول معاوية بأنّه يمرّ حاليّاً بمرحلة هامّة من حياته، “إنّها المعارك المسلّحة مع الجيش الحرّ لردّ النظام السوريّ عن الدخول لمناطقنا، إنّه قتال دامٍ وعنيف”، لكنّه في الوقت نفسه بنظره “واجب”، ويتحدّث هنا بواقعيّة: “أنا مقاتل، لم أعد طفلاً. ونحن الآن هنا إمّا أن نعيش وإمّا أن نموت. الوضع أصبح صعب جدّاً..”.
بين الطفولة المُغتالة وجحيم الحرب، ينمو الصراعُ بحثاً عن حياة جديدة، فالحرية كلّفته ثمناً باهظاً، خسر حلمه ووالده ورفاقه، منهم من مات ومنهم من أضحى معاقاً، ومنهم من فرّ مهاجراً. كلّ هذا بدا جزءاً من عوالم معاوية، الذي يتوق للاحتفال بالذكرى السادسة للثورة، معتبراً أنّ “ما حصل كان لازماً أن يحصل منذ زمن بعيد، إنّه قَدَر السوريّين ليقضوا على الظلم الذي دام عقوداً”.
لا يسهب في سرد معاناته الخاصّة، فبين جملة وأخرى يعرض معاوية صوراً لضحايا يعرفهم، الأمر الذي خلّف في نفسه – كما يقول – كرهاً كبيراً لرأس النظام، ويقول عنه:
“هذا ليس رئيساً، إنّه مجنون، أهبل، فلتان، يقتل في كلّ مكان! يقول عنّا إرهابيّين! الإرهابيّ هو القاتل، وهو من لا يفرج عن المعتقلين، هو الذي يحاصر النساء والأطفال!”. ويرى أنّ الردّ على ذلك هو بالثورة، التي يتغنّى بها معاوية ويعتبرها أمّه، وتراها غائرة في أعماقه، لتبرز معها مشاعر الطفل الثوريّ، فهي: “كرامة، حرّيّة، هي كلّ شيء..”، لكنّه بالمقابل يكره الدماء، ويرى أنّ “الناس أُجبرت على حمل السلاح لتدافع عن نفسها، والحراك الشعبيّ مرّ بمراحل كان أوّلها سلميّاً، ما زلنا نتغنّى به”.
لا مسكوت عنه
يأتي معاوية إلى المرحلة الحاليّة، وقد أضحت فيها “الحرّيّة” التي طالب بها بجسده الغضّ شبحاً مطارَداً في البلاد، فيما يعرّج بألم على النتائج الدموية للصراع، إذ لا تهدأ آلة القتل والدمار، ثمّ يتنهّد ببراءة الطفل ويحدّق في الجوال مرّة أخرى مخاطباً نفسه: “هناك قصف.. اشتباكات.. عدّة شهداء وجرحى..”.
على بعد أيّام ذكرى انطلاق الثورة. ومعاوية ما زال في الساحات الأولى للثورة، إنّه يعدّ العدّة حاليّاً لذلك اليوم “التاريخيّ” كما يصفه، لكنّه يرى أنّ الاحتفال يكون كلّ عام بشكل أفجع ممّا سبقه، إنّه نزيف الدم المتواصل دون هوادة. هي الحرب المجنونة في البلاد، لكنّه يتهرّب من الألم بسرعة، ويطرح سؤالاً يؤرّقه شخصيّاً: “الشعوب التي طالبت بالحرّيّة لم تُرم بالبراميل المتفجّرة والصواريخ، لماذا حصل هذا معنا فقط؟”، ويتابع مستنكراً “العالم ضدّنا.. الحرّيّة حلال عليهم وحرام علينا؟!”.
وبين تراكمات الأيّام القاتمة التي لاقاها مبكّراً، طفولة أُزهقت ورُدمت، لم يعش منها سوى لحظات مليئة بالخوف الممزوج بحرقة وداع أناس جدد يوميّاً، قبل الثورة كانوا أعزّاء على قلبه سيبقى يذكرهم: عمّار الرشيدات، أحمد العاقل أبازيد، ومحمّد الفيصل أبازيد، كانوا معه منذ الصغر، هم أصدقاؤه؛ لكنّ عمّار قضى في الثورة وأحمد أصبح لاجئاً، بينما محمّد لا زال قريباً نسبيّاً من مكان معاوية، إلّا أنّه لا يستطيع الحركة بعد تعرّضه لإصابة جرّاء قصف النظام السوريّ.
ولأنّ “فاتورة الثورة الدم” كما يقول معاوية، فالمسكوت عنه ممنوع في قاموسه، إذ تتجلّى مظاهر النضج المبكّر فيه وهو يروي كيف يستيقظ صباحاً ليمتشق سلاحه ويذهب لجبهات القتال، ويبقى هناك حتّى المساء حيث يعود مرهقاً. بعدها يشحن هاتفه بطريقة المحاصرين في سورية: “عن طريق بطارية سيّارة، أيضاً نستعملها للإضاءة، فلا تأتينا الكهرباء إلّا ساعتين في اليوم فقط، أتابع الأخبار عبر الأنترنت.. ثمّ أنام.. بس هيك!!”.
سنعود لنكتب
لا شيء سلبيّ في الثورة التي ساهم بتفجيرها يمكن أن يمرّ دون أن ينتقده، ويؤكّد أنّها “ثورة كلّ السوريّين، نريد حرّيّة وكرامة وعدالة.. لذلك الثورة ليست بالتطرّف ولا بالقتل. نحن ندافع عن أنفسنا فقط، وإلّا سنموت! لا يوجد احتمال آخر.. هذه هي القصّة”.
تبقى حسرة في نفسه على من لن يعود، مترقّباً المجهول في قادم الأيّام، محاور بارع بسيط مقنع بأنّه صاحب قضيّة، يتنبّأ بـ “النصر القادم لا محالة، نصر السوريّين، نصر لا يتوقّف على أحد ما بالتأكيد.. لغاية اليوم سوريا بدّها حرّية، وسأرجع أنا أو أحد الشبّان لنكتب على جدران مدينتنا.. سورية التي طالبت بالحرية.. نالتها”.