لقد حرص الإنسان ومنذ بدء الخليقة على أن يستر جسمه اتقاء العوامل الجوية المختلفة على مدار الفصول الأربعة للسنة , لذلك كان يتكيّف باللّباس وبشكله بدأ من الرأس وانتهاء بالقدمين , مستعينا بالمواد الطبيعية المتوفرة من حوله , لذلك راح يغزل أصواف الماشية وأهداب القطن ليجعل منها خيوطا رفيعة ينسجها على شكل رقائق قماشية يقوم بحياكتها وإخاطتها لتكون ساتراً لجسمه من العوامل الخارجية من البرد أو الحرارة من منطلق ” أنّ اللّباس ابن بيئته “.
ولقد كان الإنسان ينفرد بتميّزه عن بقية المخلوقات بالعقل وبتفاعله مع المحيط الذي يسكن فيه كونه اجتماعي بالفطرة ويحرص على الظهور في أبهى الصور , ولم يكتفِ بعد ذلك بإكساء جسمه بقماش موحّد الشكل واللّون , لذلك لجأ الى الآصبغة والألوان المختلفة المأخوذة من عصارات الأزهار والورود وعجنها مع الزيوت المتوفرة حوله في البيئة النباتية والرعويّة التي يعيش ويقتات منها .
ولقد وجدنا اختلافات كبيرة من خلال تتبعنا للصور التي وصلتنا عن الإنسان القديم لدى المقارنة بينه وبين سكان المناطق المتجاورة لسكنه بحيث يمكننا التمييز ــ بسهولة ــ بين هذه الأقوام أو غيرها.
ولا نبالغ إذا قلنا أن معظم البحوث التاريخية للأقوام والسّكان كانت تعتمد في تحليلاتها وتصنيفاتها على أشكال اللّباس المستخدم في تلك الحضارات, ومنها تُعطى الهويّة والتسمية والتصنيف.
إضافة الى الأحوال الجويّة التي كان لها الدور الأكبر في تحديد أشكال الألبسة الوقائية , فكان للمعتقدات الدينية الدور الأكبر والتي تساهم في طريقة ارتدائها ولباس السيدة مريم العذراء اكبر دليل فضلا عم مانشاهده في أثار الفراعنة ومابين النهرين في سورية والعراق .
كما امتد ذلك اللباس وارتبط مع عناصر الحياة المحيطة بالإنسان وفيها.مع طرق فرش البيوت وما رافق ذلك من الرسوم التزيينية والزخارف الهندسية المحيطة بالسكان سواء المتواجدة على المنسوجات المتجمعة على شكل حواجزــ جدران متحركة ــ مؤلفة من رصف أعواد نبات ” البردي ” المنسوجة بخيوط صوفية ملونه . فضلا عن البسط والسجاجيد الممدودة على أرض الأماكن التي يقيمون فيها .
ونتيجة التجمعات البشرية وتكاثر السكان وتزاوجهم , ومشاركتهم لبعضهم نسبياً,اح والأحزان وفي المناسبات التعبديّة والاجتماعية فقد بات الأفراد يعتنون بلباسهم وزينتهم ( ويحرصون على الظهور بشكل لافت ومتميز بين الأقران والأصحاب ),
وهذا ما خلق تطورا واهتماما بالشكل الخارجي للباس من باب الاستعراض أو المماحكة ولفت الأنظار . خاصة عندما تكون المناسبة تقتضي حضور مدعوين ومدعوات من مناطق بعيدة نسبياً , لذلك كان كل طرف يهتم بمباغتة الطرف الأخر وإدهاشه بلباسه وألوانه وأزيائه اللافتة للنظر .
من هنا جاءت التعدديّة والتنوّع في تحديد شكل اللّباس لكل منطقة سكانية بعد أن يكونوا قد توافقوا واعتادوا على شكل مستحسن نال إعجاب وأذواق الأكثرية واعتادوا عليه وأصبح للمنطقة خصوصية معروفة متميزة.
ومن يتدمر.لمنحوتات والتماثيل في التاريخ والتراث السوري يلحظ دون جهد تنوع وغنى أشكال اللباس الذي كان يستعمله سكان المناطق السورية المتعددة ابتداء من بصرى الشام وانتهاء بماري وحضارة مابين النهرين أو ما نلاحظه من نقوش وزركشات على أثواب ربة الينبوع أو على .. ملكة تدمر . وهذا الأمر لم يكن محصوراً باللباس النسائي فقط, بل كان يتوافق مع الألبسة الرجّالية الغنيّة برموز القوة والشجاعة والفروسية.
وبالعودة الى الأزياء الشعبية التقليدية المعاصرة نجد أن سورية تمتاز وبشكل كبير بتعدد وتنوع أزيائها الشعبية حتى ليكاد المرء أن يقع في حيرة كبيرة إذا ما أراد اختيار الزي الذي أعجبه , وهذا ما جعل كل محافظة أو كل منطقة أو حتى قرية لأن تهتم وتجتهد لإظهار جمالية ألبستها الشعبية التقليدية , وغالبا ما تكون مصنوعة من أجود الأقمشة ومطرزة بخيوط الحرير الطبيعي المتعدد الألوان وإضافة ما يمكن من تزيينات معدنية فوق الرأس والمصاغة بالذهب والفضة , ومنها قطع زجاجية ملونة لامعة كالخرز الأزرق والأطواق المتدلية فوق الصدر . ولا يزال معظم السكان كل محافظة يحرصون على ارتدائها في المناسبات وخاصة في الأعراس.
ولن نستغرب بعد ذلك عندما نشاهد اهتمام المحافل الثقافية والسّياحية وحرصها الدائم على إقامة المهرجانات لهذه الألبسة التراثية أو الأممية العالمية في تلك الأنشطة المماثلة. فهي التي تعبر عن حضارة غابرة لشعب أصبح له هـويـّتـه الـتراثـية التي يتباهى فيها ويفتخر ويتمسك بها كوحدة مترابطة تميزه عن بقية الأمم .
عبد الرزاق كنجو