لا أجراس على ضفاف الخابور .. ومسيحيو الجزيرة أمام الهجرة الأخيرة

gallery-preview

“استمرّتْ المجزرة لفترة من الوقت، لم يكن هناك داعٍ للاستعجال، فاليوم بطولهِ أمامهم، كما أن ضحاياهم كانوا في وضع عاجزٍ تماماً، ولم تكن هناك أي فرصة لتدخّلِ طرف ثالث ..”.

هذه العبارات مقتطفة من شهادة الملحق العسكري البريطاني الكولونيل رونالد ستافورد، عن مجزرة سِميل الآشورية، في آب/ أغسطس 1933.

خلفتْ عمليات القتل المتتالية، التي نفذها الجيش العراقي بحقِّ أبناء بلدة سميل الآشورية والقرى المحيطة بها، أكثر من 600 ضحية، بحسب تقارير بريطانية رسمية، فيما يقول أصحاب الدم، إن الرقم وصل لثلاثة آلاف، عدا عن تهجير عشرات الآلاف ونهب عشرات القرى في لواء الموصل “محافظتي دهوك ونينوى حالياً” بالعراق.

تكثّف شهادة الضابط البريطاني حول تلك المجزرة، وقائع كثيرة مشابهة، لجريمة أخرى حدثت أواخر شباط من العام الفائت، في منافي الآشوريين الجديدة، على ضفاف الخابور في الجزيرة السورية.

يروي “فادي” تفاصيل هجوم داعش في 23 شباط من العام الفائت على قرى الخابور، واختطاف 235 آشورياً، ليعيد بشهادته، تشكيل لوحة قريبة من تلك التي تحدّثَ عنها الكولونيل البريطاني عن مجزرة سميل، يقول فادي: “في الرابعة فجراً، بدأ صوت الرصاص يطغى على قريتنا “تل هرمز”، همتُ بالفرار، بعد أن علمنا أن عناصر من داعش، اقتحمت القرية، وبدأت باحتجازِ الأهالي في المدرسة الوحيدة. خرجتُ من القرية شمالاً وقطعتُ نهر الخابور، وأمضيتُ ساعتين مختبئاً في حفرة صغيرة”.

نتج عن هذا الهجوم المباغت لداعش، اختطاف 235 آشورياً، ونزوح الآلاف، عدا عن ضحايا مدنيين سقطوا في ليلة الهجوم، أو أعدموا لاحقاً؛ في رسالة تحذيرية منه لدفع أهالي المحتجزين ومن خلفهم الكنيسة إلى التحرك، والرضوخ لمطالبه المالية.

أواخر شباط من العام الحالي، وبُعيد مرور الذكرى السنوية الأولى للحادثة، تمكّنتْ كنيسة المشرق الآشورية، من إطلاق سراح غالبية المختطفين، مقابل فدية مالية، “وصلت بحسب بعض المصادر إلى 22 مليون دولار”، واقتربت بذلك من إغلاق هذا الملف.

إلا أن الحادثة، أو “الفاجعة” بحسب وصف الضحايا، فتحت أبواباً كانت مواربة أساساً، عن أفق الوجود المسيحي في المنطقة!

هواجس البقاء تطارد مسيحيي الجزيرة

من كنيسة “القديس بثيون” المغلقة في “تل هرمز” جنوباً، مروراً بصمت مشهديّ يلفُّ مقابر القرى الآشورية على طول ضفة الخابور الغربية، يصحبنا “سميح” للتجوال بين أزقة قرية تل جمعة، وبلهفةٍ يتحدث عن منازل القرويين الفارغة. يقودنا الطريق الترابي خلف سميح، إلى منزل ريفي عتيق ذو علّية أنيقة، يقول الرجل إنه لعائلة الحقوقي الآشوري “أسامة إدوارد”.

وبحسب توثيقات الشبكة الآشورية لحقوق الإنسان، والتي يديرها السيد إدوارد، تسبّب هجوم داعش بإفراغ كامل القرى جنوب نهر الخابور، حيث وثّقت الشبكة فرار 2300 عائلة إلى مدينتي الحسكة والقامشلي عقب الهجوم. غالبية هذه العوائل غادرت البلاد في الأشهر اللاحقة. ويبيع اليوم أحد محال الأدوات المنزلية المستعملة في مدينة القامشلي، عشرات القطع أسبوعياً، تلك التي تركها المهاجرون خلفهم.

يقول صاحب المحل “المسيحي” متحسراً: “للأسف، زادت بضاعتي في الآونة الأخيرة، ويبدو بأنها تروق للزبائن كثيراً، إنها قطع فريدة”.

لا تقتصر بضاعة “أبو راني”، على أثاث منازل الآشوريين فقط، بل بات مخزنه في “حي الوسطى”، مقصد عموم المهاجرين المسيحيين، الكثير منهم يزوّد أبو راني بقائمة تضم محتويات منزله، أثناء بحثه عن طريق للهجرة. مخزن أبو راني ممتلئ بذكريات المسيحيين، ويقول الكثير عن تعاظم الهجرة المسيحية، في ظل غياب أرقام توثّق لهذا النزيف المجتمعي الحاد.

أحد قساوسة القامشلي، يقيس المسألة بحسبة روحية يتقنها جيداً: “كانت هناك 340 عائلة من أبناء طائفتي “الكلدان”، أزورها في المناسبات الدينية، اليوم هناك 200 عائلة، بقي من أغلبها شخص واحد فقط”، مضيفاً بألم: “لا أعتقد بأننا سنسمع جرس الكنيسة بعد عام من الآن”، والمخيف بحسب القس حنا “اسم مستعار” أن “الشتات وجهة المسيحيين في هذه الهجرة الجديدة، إذ لا وجهة محددة هذه المرة”.

تقول تقديرات المنظمة الآشورية الديمقراطية، إن نسبة الهجرة بين مسيحيي الحسكة، تجاوزت 60%، حيث كان العام الفائت، محطة قاسية لهم، بدأت بهجوم داعش على القرى الآشورية، وعزّزتها التفجيرات اللاحقة التي ضربت نقاط الثقل المسيحي في القامشلي، “إضافة إلى القوانين الصادرة عن الإدارة الذاتية”، ولا يخفي المحامي وعضو المكتب السياسي في المنظمة الآشورية الديمقراطية “بسام يوسف”، خشيته، من “استهداف هذه القوانين للوجود المسيحي”، الأمر الذي دفعهم مع سبع عشرة مؤسسة مسيحية، دينية ومدنية، “باستثناء الاتحاد السرياني المنضوي في الإدارة الذاتية”، منتصف العام الفائت، إلى تشكيل “الهيئة المسيحية” استجابة “للضغوطات الأمنية التي باتت تمسُّ الوجود المسيحي”، إلا أن هذه الهيئة ظلّت معطّلة حتى منتصف أيلول/سبتمبر من العام نفسه، تاريخ إصدار الإدارة الذاتية “قانون إدارة وحماية أملاك المهاجرين والغائبين” ويشمل القانون أموال وممتلكات المهاجرين، المنقولة وغير المنقولة، و”وضعها في خدمة المجتمع وسكان الإدارة الذاتية”.

بدأت هذه الهيئة الدخول في نقاشات مباشرة مع الإدارة الذاتية، حيث يؤكد الأستاذ بسام يوسف لتشكيل لجان مصغّرة لمناقشة ومتابعة مطالب الهيئة، والتي كانت قد سُلّمت لممثل عن الإدارة الذاتية، في مدينة القامشلي، بحضور “مار أفرام الثاني” بطريرك السريان الأرثوذكس، وضابط الارتباط العميد “محمد ديب”.

استياء المؤيدين من “الدولة” وخذلان الروس

الناشط المسيحي “نضال رهّاوي”، نشر مؤخراً على صفحته الشخصية على الفيس بوك، تسجيلاً مصوّراً قال إنه رسالة وجّهها “للرئاسة السورية” صبيحة اليوم الثاني لتفجيرات القامشلي. يعبّر رهاوي في التسجيل الذي يتجاوز طوله 20 دقيقة، عن “استياء الشارع المسيحي من سياسة الدولة”، ويؤكد لقاءه مسؤولين روس في مطار القامشلي، و”استبشر خيراً بوجودهم في المنطقة”، قبل أن “يتنصلوا من وعودهم ويتخلوا عن المسيحيين، ليساندوا مشروع الإدارة الذاتية خدمة لمصالحهم، في ضرب عدوهم الجديد تركيا”، على حد تعبير رهاوي الذي يختم تسجيله باتهامٍ “للدولة” “بضلوعها، ولو بشكل غير مباشر، في دفع المسيحيين إلى الهجرة”.

يقهقه أبو راني من خلف طاولته الخشبية المهترئة: “تعال غداً، وربما تجدني أعرض في هذا المخزن، جزءً من أثاث منزلي للبيع أيضاً”.

المصدر : أخبار الآن