«يا أمي أنا رائد ما عرفتيني؟» قالها وفمه امتلأ بالدماء، وجسده بدا هزيلاً غضاً، مع انحناءة في الظهر تشي بالإرهاق والتعب، والوجه يحكي حكايات خبأتها ثلاث سنوات من الغياب.
ثلاث سنوات مرت على غياب «رائد» عن أهله، رائد شاب في الثالثة والعشرين من عمره، من ريف إدلب، تم سحبه إلى الجيش في نهاية 2010، ثم فرزه إلى دمشق في العام نفسه إلى منطقة الحمراء، وبعد مرور أربعة أشهر من عمر الثورة، عاد رائد إلى إدلب في إجازة، ولم يكن يدري بعد ما يحصل في البلاد، وعن انتفاض آلاف الناس ضد النظام السوري، وما يحصل في مدينته التي كانت من أوائل المنتفضين.
تقول والدة رائد لـ «القدس العربي»، «عاد ابني بعد أن قضى إجازته إلى دمشق ليتابع خدمته العسكرية، وهناك اجتمع مرة أخرى بصديق له من درعا كان من أشد المقربين له، وكان الشاب الدرعاوي على علم ووعي بما يحدث في بلده بشكل كامل فحاول الانشقاق عن قوات النظام، وعند افتضاح سره قام الضابط المسؤول عنه بإصدار أمر بإعدامه وتصفيته».
«هنا كاد يجن رائد عندما رأى صديقه يعدم أمامه، وهجم على الضابط وضربه، فأودعوه السجن عقوبة له، وتم وضعه في المنفردة لمدة شهرين، ثم أخرجوه مرة أخرى، وعندما خرج علم بتصفية ثلاثة من زملائه أحدهم من إدلب والباقي من حمص، هنا بدأ يخطط رائد للانتقام لأصدقائه من الضابط الذي قتلهم، فهجم عليه ذات يوم بسكين كانت بحوزته لكنه لم يتمكن من قتل الضابط»، بحسب والدته.
ومنذ تلك الحادثة انقطعت أخبار الشاب عن أهله، حتى وصلتهم الأنباء أنه مات، لكن الأم التي ترفض بأي شكل من الأشكال أن تصدق نبأ وفاة ابنها باعت كل ما لديها لتحصل على خبر يقين واحد دون أي جدوى، 20 ألف ليرة سورية تدفعها للضابط ومثلها للمحامي وضعفها للضابط الأعلى رتبة وعشرة آلاف ليرة للعوايني الذي قد يدلها على مسؤول مرموق.
وخلال هذه الفترة كلها كان أحد أصدقاء رائد قد خرج من المعتقل وحاول مراراً وتكراراً الاتصال بعائلة رائد ليطمئنهم على ابنهم لكن دون أي جدوى، فالاتصالات المقطوعة أعاقته، حتى مرت شهور إلى أن وصل إلى أهل رائد وأخبرهم أنه كان معه في المعتقل، لتعيد الأم محاولاتها في دفع النقود للعثور على ابنها.
وبعد دفع ما يقارب مئتي ألف ليرة سورية، تمكنت الأم من أخذ إذن لزيارة ابنها في سجن صيدنايا ذي السمعة السيئة، بقيت الأم حوالي ساعتين كاملتين تتجول في أرجاء المبنى بحثاً عن مكان ترى فيه ابنها، أخذت له الخضار والفواكه والألبسة والنقود وكل ما كانت تشتهيه له وحُرِمَ منه طوال سنتين ونصف، «كانت ذاهبة للقائه محملة بكل هذا، كطفلة محملة بالهدايا ذاهبة للعيد».
«أن تحرم أم من رؤية ابنها الذي من المفترض أن يكون ميتاً، ثم يأتيها خبر بقائه على قيد الحياة، يعني أن تأتي لزيارته محملة له بكل ما في الدنيا» هكذا أخبرتنا والدته، متابعة «كنت اسأل عن مكان يأخذون مني بعضاً مما معي، حتى وصلت إلى رجل دلّني أين من الممكن أن أرى ابني، لكن بعد ما سرِق مني كل ما بحوزتي، فذهبت إلى ابني خالية اليدين». اقتربت الأم من شباك السجن فوجدت ثلاثة شبان ولم تجد ابنها بينهم، صارت تبكي وكأنها أصيبت بخيبة أمل، حتى سمعت أحدهم يصرخ وهو يبصق دماً «يوم ما عرفتيني؟ أنا رائد»!. ركزت الأم انتباهها على من يتكلم وقالت له «لا أنت مو رائد» لم تستطع الأم أن تتعرف عليه من شدة ما بدا هزيلاً ومتعباً وبانت عيونه غارقة في وجهه، والفم قد امتلأ دماً، والجلد قد تشقق من كثرة الضرب.
فقال لها «تطلعي بعيوني يوم، شو ما عرفتيني؟» ظن الشاب أن أمه قد تتعرف عليه من عينيه الخضراوين، هنا اقتربت الأم أكثر حتى كادت تلتصق به وصرخت صرخة علا البكاء عليها «هاد أنت يامووو؟»!
صار رائد يبكي ويتوسل أمه قائلاً «ببوس إيدك طالعيني من هون بأقرب وقت، ادفعوا يلي فوقكن ويلي تحتكن بس طالعوني، يا أمي جوا موت أحمر، رح موت، طالعوني».
تقول أم رائد: «تسمرت في مكاني عاجزة، أرى ابني يصرخ من الألم والوجع وأنا أقف أمامه لا حول لي ولا قوة إلا البكاء، إلا أن قطع جلسة البكاء هذه صوت السجان قائلاً: «خلصت الزيارة».
لم تمضِ أربع دقائق فقط على لقاء طال بعد 3 سنوات، لم تتحدث الأم مع ابنها طويلاً، لم تعرف ماذا يأكل، وكيف ينام، وهل يتدفأ، لم تعرف حتى ما تهمته.
عادت الأم من حيث أتت، عادت بلا رائد، عادت بقلب آخر، قلب حفر الوجع والعجز فيه خطوطهما، عادت إلى حيث لا تدري أين يكون اللقاء الثاني.
يمنى الدمشقي
القدس العربي
الصورة من حيطان سراقب