زيتون – أسعد شلاش
أنا شامخ
أنا شاهد
أنا شقيق غابة الصنوبر
أنا جدي الشيخ منصور
وأمي سراقب
أبناؤها أخوتي
هي من سمتني
(عامود الإذاعة)
منذ مايقارب القرن وأنا أطل على بلدتي من ارتفاع مئتين وعشرين مترا، شيدني المحتل الإنكليزي (مابين خروج المحتل العثماني ودخول المحتل الفرنسي) وهو يدرك تماما أنني ابن هذه الأرض ولن أنتمي إلا لها فالاحتلال زوال والبقاء شموخ، أوكلت إلي منذ نشأتي مهمة توصيل ما يبثه الجنوب للشمال، عايشت أمي مذ كانت صغيرة وعدد أبنائها لا يتجاوز الآلاف، أذكر أنها كانت فقيرة بسيطة بيوتها طينية متواضعة، في الشتاء كنت أغتم عندما تقفر شوارعها باكرا فلا أرى ولا أعرف إلا القليل عن أحوال وأخبار أمي وإخوتي وإن بخلت السماء بغيثها غنيت مع أطفالكم (أم الغيت ياريا عبي جبابنا مية) وأستبشر بعدها بالغيث أراقب الغيوم التي تلامس ذؤابة شعري أدعوها لتتوقف قليلاً وتمن على الأرض وكثيراً ما تستجيب ويبدأ مخاض السماء برق ورعد مخيف فأسهر رغم قسوة الأنواء أبقى متيقظا أحرسكم وأبدد مخاوفكم مما تخشونه وتدعونه (زعقة) قد تقع في أرضكم.
ما يفرحني وينسيني قسوة الشتاء ربيع يخضر حولي يتفتح وروداً ويطير فراشات حينها تخرج الحسناوات لتحوش من جواري( سلبين وكربج).
عاصرت تعبكم صيفاً في مواسم جني غلالكم، وأنتم تستيقظون باكرا تنتشرون في حقولكم توقعون بمناجلكم أغنيات الحصاد التي تصدح بها حناجركم (جانا الحصاد مسير لو مستحي ولو خايف غبر نهود الغالي هل بيض هل نضايف).
فرحت كثيراً عندما دخلت الكهرباء بيوت أخوتي بعد زيارة «عبد الناصر» حينها احتشد كل أهالي البلدة على مرمى مني، قصفت بعدها بعدة قنابل كان ذلك أثناء محاولة فصل الجنوب عن الشمال بغية إسكاتي لكنني أبيت أن أغير مهمتي وبقيت محافظاً على عهدي نقل ما يبثه الجنوب للشمال دون زيادة أو نقصان فأنا أمين ولست بنمام.
في الخريف أفرح معكم بليالي سمركم، أتمايل مع غنائكم في أعراسكم وأكحل عيناي بعبور زفة عرسانكم من أمامي على أقدم طريق معبد يصل الشمال بالجنوب، فكل مسافر من حلب إلى دمشق وبالعكس لابد أن يعبر من أمامي ويلقي علي التحية.
أكثر ما ساءني في الثمانينات إحتلالي من قبل عسكر مدججين بالسلاح، فأنا مدني مسالم لا أحب العسكر، كنت أراقب بأسى بعض المأجورين من أبناء أمي العاقون، وهم يرشدون دوريات الأمن لإعتقال أخوتي، لم يكن باستطاعتي أن أنذرهم، فكرت أكثر من مرة أن أهوي عليهم وهم مع عناصر الأمن في سياراتهم.
يستهويكم أن تلتقطوا صوراً لي، ولا يخلو شتمكم لشخص تستاؤون منه بقولكم (بدي حطك على عامود الإذاعة)، وإن كبرت الشتيمة (على إبرة العمود)، فأحيانا أعبر عن فرحكم وغضبكم، ولا أخفيكم بأن أسوأ مرحلة مررت بها طيلة حياتي معكم هي عندما استخدمت كنقطة لقنص إخوة لي على يد القناص الذي زرعوه في كبدي، فكل رصاصة يطلقها كانت تخترق جسدي قبل أجسادكم، وكم تمنيت أن أكون فعلاً كما وصفتموني أستطيع التقاط (الزعقة)، ورميها عليه وعلى جميع قناصي البلدة، إنها أسوأ لحظات عمري لأني أقف عاجزاً عن فعل أي شيء، أنتظر تحريري على أيديكم، وها أنا اليوم أخبركم كم كانت فرحتي عظيمة عندما حررتموني ورفعتم علم ثورتكم يرفرف فوق رأسي، أحسست حينها أنني أعانق السماء والنجوم تكلل جبهتي، لكن فرحتي لم تكتمل فقد عاد الطيران يستهدفني مجددا فتكاد لا تخلو أية هجمة من طيران الغدر إلا وتفرغ حمولتها حولي، وما زلت صامدا أقاوم عسف العسكر، أقطر دمعاً ممزوجاً بدم، عندما تشيعون شهداءكم بعد كل غارة بزفة عرس وأي عرس! إنه عرس الحرية.. حرية مهرها دماء.
وأردد معكم أهزوجتكم (جينا وجينا جبنا العريس وجينا.. وعروستنا الحرية)
لكنني ورغم كل ما يحصل أثق بكم وبدماء من رحلوا بأننا سنتابع الطريق معا، أثق بهذا ما دمت شامخا.. أنا من تنتسبون إليه أمام كل من تريدون أن تعرفوه على بلدتكم أنا (عامود الإذاعه) وجعكم وجعي وحريتكم حريتي، أنا أخوكم الأكبر وأنتم إخوتي وسراقب أمنا.