فاضل السباعي
ستة وثلاثون عاما تقّضت على رحيله من عمر الزمان، وذِكر لؤي كيالي لا ينقطع، عن أسلوبه المتميّز في الفنّ التشكيلي، وعمّا تأتّى له من أن يجعل «الذين يملكون» يتوجّهون إلى اللوحة الفنية الأصيلة يقتنونها لتتصدّر صالوناتهم، التي ظلّت تستأثر بها سجادةٌ كاشانية أو آنيةٌ آتية صينية.
لم يُقدّر لـ لؤي كيالي أن يتزوج، مع أنّ الحسناوات، شابّاتٍ وناضجات، كنّ يتّجهنَ إليه ويلتففنَ حوله في كلّ مكان. ويوم كان يدرُس في «أكاديمية الفنون الجميلة» في روما، إذا صادفته في الطريق امرأة، تلبس مُسُوح الراهبات أو متزيّنة متبرّجة، صلّبتْ، يُذكّرها هذا الرجل المارّ أمامها بالمسيح، دون أن تدري أنّ هذه القامة السمهريّة قادمة من موطن بلاد الشام، مهد السيد المسيح!
هل كان انجذابهنّ إليه يبعث الزهد في نفسه؟ ولكن ما بال هذه الشابّة تسترعي انتباهه وتستهويه!
لم تكن الفتاة، القادمة من باريس، والتي كانت قد أدّت للتوّ امتحانا لها بجامعة القاهرة، قد سمعت بالفنان لؤي كيالي (ذلك في ربيع 1963)، وهو الذي علا صيته في بلدها وغدا نجما.
زارت معرضا له مع صويحباتها. قدّموها له: ابنة سفيرنا في باريس! رأت الجميع معجبين به، وخاصة من سمّتهنّ «الحريم»! تقول في مذكّراتها: «لأنه جذّاب وفنان»! وردًّا على سؤال منه أجابت بأنّ هناك «امرأة واحدة» تراها في لوحاته، «هي أمٌّ أكثر من أن تكون حبيبة أو عشيقة!». فرشقها بنظرة، وابتعد!
وبعد «ضياع» بين المعجبين والمعجبات – تقول – استوقفها عند الانصراف ليدعوها مع آخرين إلى تناول العشاء في أحد المطاعم الليلية. تقول: «ولاحظت أنه كريم، حسّاس، ضائع، يتحسّس من أي كلمة تقال، ثمّ ينساها ليعود إلى «أبعاده الغريبة والمهذّبة»!».
كان ذلك هو اللقاء الأول بين ابنة السفير «الدكتور علي أسعد خانجي» وبين الفنان التشكيلي المتألّق لؤي كيالي. وتعدّدت اللقاءات، يُبدي لها فيها اهتمامًا يختلف عمّا يُظهر نحو الأخريات…
بالأنوثة الفيّاضة، ووسامة الشباب، والأحاديث عن الفنّ الجميل، والصراحة الأنيقة… أثّر كلّ منهما في الآخر. تغيب عن دمشق، ثمّ تعود. ولكنها، في يوم استثنائي (الأحد الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 1966)، يتصل بها ويدعوها لسماع فيروز.
تقول فيها عواطفُ المرأة… تكتب:
«وصلنا إلى مسرح المعرض، وأنا لابسة «تايّور غيبور» أبيض، ورأيت معظم رفيقاتي والغَيْرة تُطلّ من أعينهنّ. ولقد بهرني تهذيبُه الرفيع، وبهرتْه – كما تصورتْ – عفويّتي وصراحتي. طربنا لغناء فيروز التي نحبّها كثيرا، ولكني رأيت لؤي يحبّ فيروز أكثر مما يحب صوتها، يحب حركاتها، يحبّ – كما قال لي – «حزنها العميق النبيل»، يحبّ شعرها الأسود وغطاء رأسها الأبيض، يحبّها كما يحبّ طفلٌ أمَّه… هذا ما لاحظته ولم أستطع أن أبوح له به.
«خرجنا من المسرح، وأَقلّني بسيارة حتى البيت، وقال لي: «لا تحسبي أني لا أعرف بماذا تفكرين!»، وأشار بيده بحدّة: «لن أقول لك شيئا الآن، ولكن عمّا قريب، في هذين اليومين!»، ومضى».
لا يخفى على دارس لؤي كيالي أمران:
• أنه رسم نفسه مرةً شبيهًا بالسيد المسيح، وإنّ الشبه – كما بيّنّا – ملحوظ على نحو ما تخيّل فنانو عصر النهضة يسوع، الطالعَ في بلادنا المقدسة.
• وأنه كثيرا ما تجلّت في لوحاته صورة الأمّ، وما يستتبعها من عطاءات الطفولة: من أطفال يرضعون الثدي، وأولاد مشرّدين يبيعون أوراق اليانصيب على قارعة الطريق أو يمتهنون مسح الأحذية.
في التعليق على الأمر الأول، أنّ ذلك كان من فناننا المبدع حدْسًا وإلهاما، وقد انتهت حياته باحتراق الجسد بدلًا من الصلب، وفي كلتا الحالتين عذابٌ أليم.
وفي تفسير الثانية أنه حُرم من أمّه طفلًا، بالانفصال بين الوالدين ومسارعة الأمّ إلى الزواج ما جعل العودة مستحيلة، فتجلّى حنين الابن إلى الأمّ في فنّه، وبَعُد في مضماره فشخّص الطفولة تَرضَع و»الوَلدنة» تتشرّد.
هل أقول في حقّ خَرِيجة الفلسفة، «أمل خانجي» (التي تسنّى لها أن تلتحق بالسلك الديبلوماسي)، إنها، وهي في مقرّ وزارة الخارجية بدمشق، قد استطاعت، خلال تداولها الحديث مع لؤي كيالي عن هذين المعنيين، أن تَنْشدّ إلى الفنان الشاب وأن تشدّه إليها، فتَلوي عُزوفه عن الزواج، ويشرعا في تبادل الحبّ – كما الفن التشكيلي – الجميل؟
استطرادٌ صغير آخر، حول ثقافة لؤي كيالي السياسية.
كان «حزب البعث» قد سيطر منذ 1963 على سورية، منتزعًا الحكم من منجِز الانقلاب اللواء زياد الحريري (قائد القطّاع الشمالي للجبهة مع العدو الإسرائيلي)، وقبيل ذلك مشتّتًا جماعات الناصريين «الطيبين» (وغير المنظّمين آنذاك)، الذين ما انفكّوا – منذ صباح الثامن من آذار/ مارس – يتوقّعون هبوط الزعيم الأسمر في مطار المزّة معلنًا عودة الحلم الجميل، هذا الذي صرخ، عند تبدّده، من هناك: «دولْ سرقوا الثورة!»!
أعترف بأنه لم يكن للفنان المبدع لؤي كيالي في السياسة بصرٌ نافذ. ولقد كان، في تردّده على المنتديات الليلية، يلتقي أؤلئك الضباطَ الشباب، الذين اعتقدوا في أيامهم الذهبية أنّ القدر قد بعثهم ليُنقذوا الأمة، فقَلَبوا، قبل أن يطيح بهم «انقلابٌ» تلا (أو «تصحيحٌ» كما سمّوه تخفيفًا)، فكان منهم مَن تشرّد، ومنهم مَن اعتُقل، ومنهم مَن صُفّي جسديّا. بعض هؤلاء أحبّوا لؤي المبدع، لأنهم رأوا في لوحاته نزولًا إلى القاع.
لم يكن لؤي بعثيّا، بل إنّ الحزب – قالوا – رفض طلب انتسابه بحجة أنه «ذو منبت برجوازي»! وقد بادلهم الودّ حتى قيل، أيضا، إنهم لمّحوا له إلى إمكان أن يكون يوما «وزيرا للثقافة»… وذلك ما أثار الحفيظة وحسد مَن هم في منزلة الأنداد – وقليلٌ ما هم – وأخذوا يكيدون له كيدا!