نكاد أن ننسى أنفسنا عندما ندخل إلى سوق الهال في أيّة محافظة أو مدينة من المدن السّورية الكبيرة , ولشدة تشابهها نسرح سريعاً بخيالنا من جهة وبنظرنا الذي يتابع المنتجات الزراعية وغزارتها وتعدد أصنافها وألوانها من جهة أخرى , وسط بهجة وراحة نفسية قد يكون دافعها الأساس الإطمئنان لدوام خيرات البلاد وبركة أرضها المعطاءة التي تضمن الأمن الغذائي المنتج بأيدي وتعب فلاحنا النشيط .
المنتجات الزراعية والحيوانية تصل للسّوق على مدار اليوم كله وليس له ساعات محددة في الليل او النهار ,لذلك تجد الشاحنات الزراعية ومن مختلف الحمولات وتحمل لوحاتها أرقام الدلالة من جميع المحافظات ,لذلك تجد الخضار والفواكه المنتجة في أقصى المحافظات الغربية تعرض في السوق شأنها شأن منتجات المحافظات الشرقية التي تعرض في الاسواق الاخرى ,وهذا مايجعلنا في شعور غريب ننسى من خلاله المحافظة التي نحن نتجول في سوقها .
سيارات محملة بالبطيخ الأحمر أو الأصفر قادمة من المحافظات الشرقية وبجانبها مثيلاتها المحملة بالبطاطا والخضراوات كالباذنجان والبندورة والفليفلة وغيرها من عناصر الطبخة اليومية التي تحرص ربة البيت على إعدادها وطبخها طازجة . وفي ركن أخر تزدحم ناقلات الحمضيات القادمة من الساحل أو من المحافظات الوسطى شأنها شأن السيارات المحملة بالتفاح والفواكه القادمة من غوطة دمشق ,أو من السويداء وسهول حوران .
هذا فضلا عن صناديق الزيتون الأخضر المعدّة للتخليل أو التجريح والحفظ كمؤونة بيتية للسنة كلّها ,ولا يخفى على أحد حرص المواطن السوري على انتقاء نوعية زيته السنوي والتوصية عليه من مناطق حلب او من زيت ادلب الشهير على مستوى القطر بنكهته ولونه المميز . وغير بعيد عن ذلك تجد محلات الألبان والأجبان بكافة أصنافها والمنتجة في المحافظات الوسطى ــ حمص وحماة ــ أوالشرقية على أطراف بادية الشام ونهر الفرات . وعندما يقف المرءويتلفّت حوله يزداد زهوّاً وفرحاً ويشكر الله في سرّه مردّدا : بارك الله ببلاد الشام وأهل الشام .
لايشعر بذلك الشعور والغبطة إلاّ من عاش بعيداً عن هذه البلاد السورية وخيراتها العميمة والتي يتكامل فيها الانتاج الزراعي بكافة أصنافه ابتداء بالقمح الذي هو رغيف الخبز اليومي او البقوليات التي اعتاد المواطن أن تكون ضمن طبقه الغذائي اليومي والذي يتباهى به أمام القوميات والجنسيات الاخرى من الشعوب والتي اعتادت الحصول عليها من الاستيراد وبطريقة الحفظ والعليب أو التجفيف مما يفقدها النكهة وبريق اللون وكثير من القيم الغذائية .
لذلك تجد الزائر وتاجر الخضار والفواكه القادم الى سورية اول ما يلفت نظره تلك الاصناف الغزيرة للفواكه والخضروات وفي كافة فصول العام ,و هذه ميزة فريدة لاتتوفر في معظم بلدان العالم وذلك نتيجة للظروف الجوية المتميزة , ولهذا يلجأوون الى الاستيراد من سورية بطرق متعددة برّاً او جوّاً وقد تبقى لفترات طويلة قبل وصولها للمستهلك في بلد الاستيراد .
على الرغم من مرور حوالي أربع سنوات على بداية الأزمة السّورية وتقطيع أواصر الطرق بين معظم المحافظات نجد أنّ المنتجات الزراعية لم تتأثر كتأثير الصناعة او السياحة على سبيل المثال . ذلك لان الفلاح السوري ورغم جميع الصعوبات لم يتوقف عن الزراعه وقد واجه المخاطر وعمل تحت قصف الطيران وعانى من شظف العيش وغلاء المحروقات التي تدير محركاته الزراعية , ولم يجد الكسل اليه سبيلا فبقي يحرث الارض ويزرعها ويجني مواسمها , ويرعى الماشية وينتج من خيراتها غير عابيء بهوية المستهلك وانتماؤه لمحافظته التي يعيش فيها أو ولاءه السياسي ,لانه لم يكن في يوم من الأيام الاّ منتجاً للمحاصيل الزراعية والغذائية .وهاهي أكداس القمح والشعير منتشرة وموزعة في كافة المحافظات المنتجة للحبوب ,ابتداء من الحسكة شرقا وحقول حلب شمالا وانتهاء بسهول درعا في الجنوب , ولاتغيب عن الأعين تلك الصوامع المرتفعة والتي حرصنا على ان تكون ممتلئةعلى مدار السنة كشكل من الضمان واستدامة تأمين الخبز اليومي للمواطن السوري مهما تبدلت الظروف الطبيعية من جفاف او من مقاطعات خارجية كنوع من الضغط والابتزاز السياسي .
ولقد شاهدنا في الأعوام القليلة الماضية كيف كان الفلاح السوري يحرص على تسويق حبوبه من القمح والشعير والبقوليات للأسواق المحلية رافضا البيع ــ حتى ولو بأسعار مجزية ــ الى تجّار تهريب المحاصيل الزراعية الى دول الجوار .
كما أنّ جمعيات وجهات وطنيّة خيريّة متنوعه كانت تتسوّق القمح وترسله الى المخابز الخاصة لإعدادة وتوزيعه مجاناً للفقراء في المناطق المنكوبة او المحاصرة , شأنها شأن جهات أخرى تتسوّق من أسواق الهال معظم المنتجات الزراعية الأخرى من فواكه وخضروات وتوزيعها على ذات الأماكن , هدفها الاول مساعدة المحتاجين والهدف الآخر المساهمة في تصريف الإنتاج للفلاح المحلي الذي أصبح يلاقي صعوبات شتى لنقل وبيع محاصيله بعد ان تعب وصرف الأموال الطائلة ,وانتظر حتى اليوم الموعود للحصاد وجني المحصول .
ان التكامل الفريد في الانتاج الزراعي والحيواني المتنوّع على كافة الارض الزراعية السورية لهو دليل أكيد على تماسك السكّان المنتجين وتعاضدهم والإيمان المطلق بوحدة أرضهم السورية , هذه الارض التي تحوم الآن حولها ( الغربان السّود والحمر والخضر ) محلّقة فوقها ومتآمرة عليها , ولترسم لها الخرائط الملونة ,ولإقامة حدود لمناطقها هنا أو هناك , من منطلق قومي أو طائفيّ ,متذرعة بالإنتماء الديني مرّة أو المذهبي البغيض مرّات أخرى , ذلك المنهج الذي لم يكن قد اعتمده السوري في أيّ يوم مضى من حياة سورية الممتدة تاريخيا منذ آلاف السنين .
الكاتب: عبد الرزاق كنجو