زيتون – بشّار فستق
قال رجل المسرح الألمانيّ برتولت بريشت (1898 – 1956): «حقّاً أنّني أعيش في زمن أسود.. الكلمة الطيّبة لا تجد من يسمعها.. الجبهة الصافية تفضح الخيانة.. والذي ما زال يضحك.. لم يسمع بعد بالنبأ الرهيب.. أيّ زمن هذا؟» وقد عاش تفشّي النازيّة وبطشها ثمّ انحسارها، وأثّر في مجمل مسيرة المسرح العالميّ. وكان له تأثير كبير في الكتابة والإخراج السوريَّين، فرسالة الدكتوراه للناقد نبيل الحفّار أنجزها حول هذا التأثير، كما اتّبع سعد الله ونّوس المسرح الملحميّ واتُهم بأنّه أخذ مسرحيّته (الملك هو الملك) عن مسرحيّة (رجل برجل) لبريشت، وإن كان هذا غير صحيح. كذلك كتب وأخرج فرحان بلبل متّبعاً هذه المدرسة في أعماله التي قدّمها عبر مسيرة المسرح العمّاليّ في حمص. وكان للمسرح العمّالي بحلب جنوده المجهولون من أمثال الكاتب والمخرج أحمد سيف، الذي عاش الزمن الأسود، وكانت مجمل أعماله تتّسم بالأسلوب البريشتيّ، وكأنّ الظروف التي رافقت ولادة هذا الأسلوب تكرّرت في سورية، منذ بداية الستينيّات وتفاقمت بدءاً من السبعينيّات، فالأمراض التي تنتج عن الديكتاتوريّة تتشابه بغضّ النظر عن الجغرافية.
تميّز تناول أحمد سيف للواقع من خلال نصّوصه القصصيّة والدراميّة بمنحيين متكاملين: الظلم الذي يقع على الإنسان يترك تشوّهاً في سلوكه فيختلّ المجتمع، والأخلاق لا معنى لها بمعزل عن الوضع الاقتصاديّ. وتشترك مجموعة أعماله في تصوير الفرد المنتهك حقّه، ولكي تكتشف العلاقات يفكّكها سيف حين ينهي الصراع بهزيمة المواطن الفرد انتحاراً على الغالب. وفي سبيل أن يطرح سيف قضيّته كان يتّبع الأساليب المعروفة في التخفّي، كأن يذهب بالأحداث إلى أماكن أو أزمنة مغايرة للواقع المباشر، أو أن يضع مشاهد رمزيّة.
بالطبع كان سيف لا يتحدّث عن رأس النظام بالاسم ولا يقترب من العائلة الحاكمة على الإطلاق. بالمقابل لم تحظ عروضه بأيّ اهتمام إعلاميّ، بل على العكس كانت تهمل كمعظم المسرحيّات المتميّزة والفرق المجتهدة التي تبقى مغمورة محدودة الانتشار والدعم، فيما ينصبّ الاهتمام والأضواء والمال الكثير باتّجاه مسارح الطلائع (البعث) التي يسيطر عليها المخبرون لتنتج المدائح لقائد الوطن، تليها مسارح شبيبة (الثورة) التي تعجّ باللصوص والقوّادين أيضاً.
في مرّة يتيمة قدّم أحمد سيف أحد نصوصه ليصير مسلسلاً تلفزيونيّاً، فبدأت عمليّات المساومة، تغيّر جوهر العمل بحجّة الإعداد، بدءاً من العنوان الذي كان «الأبواب السبعة» ووصل الأمر إلى أن يأخذ أحد سماسرة التلفزيون – ممّن يسمّون مخرجين – أجر النصّ لجيبه في مقابل أن توافق لجنة القراءة في التلفزيون السوريّ على العمل. ويعرف كلّ من تقدّم بنصّ إلى تلك اللجنة أنّها نادراً ما تمرّر نصّاً دون أن تقبض رشوة.
وظنّ أحمد سيف أنّه يمكن أن يفتح باباً يكتب من خلاله مسلسلات تلفزيونيّة، خاصّة وأنّه كان قد تقدّم في العمر، ولم يعد يستطيع العمل في المسرح. لكنّ الأبواب ظلّت مغلقة، إلّا لمن يندمج مع الآلة الأمنيّة، وترضى عنه الأجهزة، وينغمر في الركوع للحذاء العسكريّ، ويجدد الولاء للمحتلّ في كلّ مناسبة تسنح له، وإن كان واصلاً – كما يقال – مثل دريد لحّام.
هل من المعقول أن يصل دريد لحّام إلى هذا الدرك من الكفر بالشعب السوريّ ودمائه؟ نعم، الأبواب تفتح لأمثاله وللمزيد من تمجيد القاتل المحتلّ، بينما مات مسرحيّ أصيل طيّب كأحمد سيف فقراً.
بالطبع هناك الكثير من أمثال أحمد سيف، بل والملايين من الشعب السوريّ تقتل يوميّاً بأشكال شتّى، في حين يبثّ الإعلام صور وكلمات شريك القتلة دريد لحّام وهو يقول للمسؤول الإيرانيّ الأوّل عن مأساة سورية: «في روحك القداسة في عينيك الأمل في يديك العمل وفي كلامك أمر يُلبّى.. « وحضر (الحفل) نجدت أنزورة، الذي طالب بوضوح بالمزيد من القتل للشعب السوريّ، فغازل خامنئي أيضاً بالقول: من كلماتك نستمدّ الأمل من حزمك نستمدّ القوّة..».
ما هي هذه الكائنات التي تنضح بهكذا بذاءات؟ والسؤال الأفظع: إلى متى سيبقى العالم صامتاً تجاه القتل واستمرار التحريض عليه؟
ونتذكّر قول بريشت – الذي أحبّه أحمد سيف – في نهاية مسرحيّة «الإنسان الطيّب في ستشوان: «مصدومين نقف, ونحن نشاهد الستارة تغلق وما زالت الأسئلة كلّها مطروحة».