لا يمكن للمتابع الحثيث أن يخطأ وجود تحولات جذرية، لدى شخصيات تعاقبت عليها أحداث الثورة، سواء من حيث انكارها في البداية، أو من ناحية اعتناقها في مراحله المختلفة.
من الممكن أن تكون هذه الشخصيات مجرد شخصيات بسيطة، ليس بذات شعبية أو شهرة بين المتابعين، ولكن المتغيرات والانحناءات والتعرجات، في منحنيات هذه الشخصيات العادية ينبغي قراءته واستثمار أفق تحولاته، ليتمكن المتابع من تقييم أفضل، لدارسة الثورة في أصولها الذاتية المعتمدة على الأفراد، في خضم منعطفاتها التاريخية.
بدأت الثورة غريبة في مجتمع مدجن وكان الأوائل الذين انتموا اليها متدرجين في أسباب انتماءهم اليها سواء من حيث المقصد أو من حيث النتيجة.
من الضرورة بمكان أن نتعرف على أهم مقاصد المنتمين للثورة خصيصاً في حالة الصدمة التي طالت النظام السوري المجرم الذي لم يعتد سوى على مسيرات التصفيق والولاء لصنم سدة الحكم، رئيس البلاد.
بداية يمكن الحديث عن الذين كانوا وقود الثورة ومن أشعل شراراتها ويمكن القول أن هؤلاء الذين هتفوا للثورة دخلوا بها لأسباب عدة من أهمها الوعي ومحاولة ايجاد دولة سقفها يكون القانون والعدالة التي تطبق فوق الجميع وقد كانت هاتين المفردتين أحلاماً مشروعة ومكبوتة في ظل نظام الاجرام الذي أدخل البلاد والدولة السورية في حظيرة التبعية والولاء للأجهزة الأمنية سيئة السمعة والذكر لدى غالبية السوريين.
ممن خرج في التظاهرات أهالي المعتقلين السابقين في حوادث الثمانينات الأليمة وخصيصاً أولئك الذين طالما شردوا وأهينوا وأهدرت أعراضهم وممتلكاتهم وحقوقهم، وكان الحصول على شهادات وفاة لذويهم، يكاد يكون حلماً يمكن أن يعطيهم شيئاً من الاستقرار النفسي والذاتي، الذي طالما شعروا به مهزوزاً ومحروماً من الحصول على حق بسيط قد لا نعرف قيمته وماهيته، هو حق اشهار الوفاة، كي يتمكنوا من استمرار الخوض في الحياة، ومواصلة القدرة على احتواء شتات أنفسهم وعائلاتهم، التي اكتوت بنار البعد، أو أمل اللقاء مع ما تبق من عائلاتهم، عبر عقود من الزمان.
وكان هناك ممن دخل الثورة السورية عن طريق التضامن والنخوة مع متظاهرين قد بات يراهم مستضعفين، ينالهم الضرب والاهانة والاعتقال والتعذيب وليس انتهاء القتل والسحل في الشارع وعلى الملء وانتشرت للعامة صور خروجهم من المعتقلات أحياء يروون مدى الفظاعة والتنكر لكل مبادئ حقوق المواطن والانسان في ظل قمع يجتاح كل تفكير يناهضه أو يفكر بالخروج من عباءته وظله، وكانت أحاديث السوريين عن شهداء المعتقلات قد أججت في الشارع حالة من الحنق والاختناق أن لا بد من عدم المماطلة بالسكوت أكثر على طغاة العصر الجديد.
وخرج للتظاهر أناس هم أصلاً ضد أي قانون، همهم الأول اثبات الذات وحب الظهور بمظهر الشجاع أمام حالة من التحدي لنظام مارس عليهم ومعهم كل اشكال القمع على المواطنين ومارس معهم وعليهم كل أنواع التشبيح والمساومة جراء الحصول على بعض الامتيازات غير الشرعية التي كانت توحي بمظاهر التبعية لفرع أمني ما، يمارس عبرها بعض حالات ايذاء المواطنين أو التجرؤ على ممتلكاتهم وفي هذه الحالة أرادوا أن يكونوا ببساطة (احراراً) بممارسة فوقيتهم أمام أي تنظيم أو أي قانون مطعمين هذه الحالة ب(الثورية) ضد شريكهم السابق. وللأمانة فإن بعضهم انقلب بحول من الله ونعمة ليتوب ويدخل باب الصلاح والفلاح، بعد طول عهد من جفاء مقصود مع الناس والله على حد سواء.
من الثوار الذين خرجوا على النظام، أشخاص صادقين كانوا في رحم الدولة السورية ومؤسساتها، يعلمون علم اليقين بمدى الفساد والعفن داخلها، أرادوا أن يكونوا من المبادرين بالتغيير، بعد أن التهمت أصوات اعتراضاتهم حالات الخنق والتضييق والتهديد بالفصل وقطع الرزق،وأصبح لسان حالهم يقول: لن تكون أرزاقنا أعزّ علينا من استمرار سفك الحقوق والدم الحرام عبر رفع الرواتب وشراء الذمة والضمير لمواصلة السكوت.
معظم من دخل الثورة السورية تعرض لنقلات نوعية فيها فمنهم من ارتّد باتجاه الايجاب ومنهم من أصبح متاجراً فيها ومنهم من اعتبر الاستمرار بالثورة، في حالة التنكر لها دولياً، ضرباً من الجنون. ومنهم من استمر فيها حتى نال شرف الشهادة. أسوء من دخل الثورة شخص انتقل من طور السلمية وانتهى بكونه يضع لفة داعشية على رأسه، متطرفاً ويرفض اساس ما خرج على أساسه ينادي بدويلات ويتوعد ويهدد ويكثر من الحديث عن السيوف والذبح لباقي مكونات شعب أنهكه الجهل وقلة الدين والضمير والأخلاق على امتداد عقود.
كثير ممن أعرف تنقلوا بالثورة في أطوارها المختلفة فمن منكر لها في البداية، لمعتنق لكل مطالبها في النهاية. من مؤمن بكل موجباتها لمدرك وعازم على اصلاح الأخطاء فيها. من متضرر فيها دفع كل ما يملك لمضطر أجبرته الظروف على التخلي عن مواصلة البقاء ضمن الميدان. أولئك جميعاً نكن لهم كل أصناف الود ولكن مع طول عهد الثورة بات يصدق من قال أن الثورة ليست لمن سبق ولكن لمن صبر وصدق.
عبد الكريم أنيس