أستيقظ مرعوباً والعتمة دامسةٌ تخيم على الهواء الثقيل، يجتاح الألم كل خليةٍ في جسدي و تبحث يداي عن رأسي، ألهث باحثاً عن منفذٍ منسي، وحدها الجدران العريضة تجدني، لم يستغرقني اكتشاف ذلك كثيراً، فالمكان من الضيق بقدر اتساع ذراعيّ، لا نافذة ولا حتى قضبان، فقط بوابةٌ مغلقة تقول باستمرار”إلى الأبد”،
أجلس القرفصاء يائساً راغباً في بكاءٍ لا سبب له و لا نهاية، أين أنا؟ كيف وصلت هنا؟ من وضعني في ظلمةٍ بلا سنا؟ أضع رأسي في حضني والأسئلة التي تلتهمه تزداد صعوبةً، من أنا؟ أكتشف أنني قد نسيت كل شيء، كل شيء، عائلتي، حياتي، عملي و رفاقي، أي نثرةٍ من ذكرياتي، لا شك أن التعذيب كان بالغ القسوة… تعذيب؟! هل هذا هو؟ قبوٌ تحت الأرض؟ بلى.. حدثوني همساً عن أمورٍ أغرب من الوهم، عن أناسٍ يختفون عن وجه الأرض مرةً واحدة دون أن يتركوا أثراً، إلى الأبد، إلى الأبد .. يا الله! أيحدث ذلك لي يا الله!؟ أتتخلى عني للظلمات؟ لماذا؟ ماذا كنتُ قد فعلت؟ لماذا؟
… هنا، ليس للوقت معنى، إذ لا شمس ولا قمر يقصان عليك نهارك وليلك، يمضي زمانك كثيفاً سمجاً فتشعر به يدهس روحك بلذةٍ سادية وهو يراقبك كيف يفقد الانتظار معناه لديك، فكل انتظارٍ له نهايةٌ وغاية وكلتا هاتين دخلتا معك عداد المفقودين، ذات السادية التي تلتمع في عيون أولئك الذين أخشى عودتهم في كل لحظة ليسوقونني إلى نوبةٍ جديدة من الصراخ والبكاء يفقدون فيها قدرتهم على سماعي مقسماً أني لم أعد أنفعهم شيئاً بعد كل ارتجاجات روحي
… هنا، تغشاك الظلمة كما الظلم، كطحل قهوةٍ في فنجانٍ مشروخ لم يغسله أحدٌ منذ قرون، تعتادها عيناك دون أن تجعلاها أقل حلكة، وحدها الأصوات تغسل إنسانيتك قليلاً… أسمعهم، أنا حقاً أسمعهم، كنتُ قد ظننت أول مرةٍ أنني وجدت أهلاسي مبكراً، لكنني واثقٌ أنهم هناك.. أول اعتقال الصمت كان تمتماتٍ مبهمة تؤنس وحدتي الموغلة في العزلة، تراهم في زنزاناتٍ مجاورة؟ لا بد أن المعتقل من الضخامة بمكان كي يتسع لكل هذه الهمسات التي تعبرني من جميع الجهات، بعضها قريب وأخرى بعيدة، بل إن الدهشة تنتابني كلما وجدت منها ما يبدو سعيداً وكأنه لا يبالي بهذا المصير. هناك حتماً وسيلةٌ ما للتواصل بيننا، فكثيرون كانوا يتناقشون وبصوتٍ عالٍ! كيف يسمعون بعضهم؟ ربما بطريقة جاري في الطابق العلوي، بضرب الجدار دون هوادة. اعتدتُه، كان بدايةً يثير جنوني بطرقه المستمر ليل نهار و كأنه لا يدري أنهم لن يفتحوا الأبواب حتى لو تفسخنا، جعل النوم حلماً لأحلامي وهو لا يكل ولا يمل من هذا الوقع الذي يشج رأسي المهشم أصلاً، لم أدر بنفسي مرةً إلا و أنا أقفز وأدق السقف راجياً أن يهدأ إن وجد استجابةً ما، شعرتُ به يتوقف للحظة ليصغِ من ذاك الذي أتاه، ربما ظنني أحد السجانين، وعندما وجد الأبواب لا تزال مغلقة، تابع سيزيفيته المازوخية من جديد، لكنني حفظت له دوماً أن قد جعلني أعود إلى الحياة. لم قفزت؟ لا تزال هناك هذه البذرة الكامنة في جوف أطيافنا تصر على التمسك بخيالٍ يُدعى الأمل، رغم كل الوسوسات التي تدفعك للكفر به وإضافته إلى قائمة الأوهام التي امتلكتنا صغاراً، لكن الأمل يرفض التخلي عنك إن أثبتَ له شيئاً واحداً: أنك قادرٌ على أن تتحرك، أنك تمتلك رغبة أن تتحرك
أظنها كانت تلك اللحظة التي غيرت مسار سجني وجعله برهة تأمل، فقدتُ عالمي الماضي، ربما، لا أحد يرى هنا شيئاً يدعى المستقبل – لا بد أنهم قد اعتقلوه هو أيضاً في زنزانةٍ سريةٍ بعيدة لا تصلها أجنحة الطيور – ولكننا نمتلك لحظتنا حتى لو كانت مسجونةً في أنياب الغياب، بدأت أصير مثلهم، هؤلاء الآخرين الذين يشبهونني بكل اختلافاتنا وافتراق الطرق التي جمعتنا، بل وضحكتُ يوماً لنكتةٍ قالها ذلك الصوت الودود الأقرب إلي، ودخلتُ في نقاشٍ من طرفٍ واحد مع آخر غاضب رغم أني لم أفهم سبب غضبه تماماً، لكن الجدل حتى لو كان حوار طرشانٍ بدا لي نوعاً من الترف الذي خلقناه من خلف صمت الجدران، كان تحدٍ لأولئك الذين امتهنوا قطع رؤوسنا و ألسنتنا… و كانت تلك متعةً كافية كي نستمر على قيد الحياة
إلى أن حلت ظهيرة ذلك اليوم الحار ..
أستفيق قلقِاً وأكثر ما يقلقني أني لا أعلم سبباً لقلقي، لكنني كنتُ محقاً، هناك توتر ٌ عالٍ في الجو يظهر في عصبية الكلمات ونزقها، الرفاق يصيبونني بعدوى هذا الخوف الذي يجتاحنا كما يحتل عامٌ جديد روزنامةً تسقط ورقتها الأخيرة، هناك خطواتٌ راكضة في كل الممرات، لا بد أن زنزاناتهم أكبر من جحري، و لكن لم لا يكونون الحراس؟ ما الذي يحدث؟ هل وصلت الحرب إلى هنا؟ في الفترة الأخيرة لم يعد هناك من أحاديث سوى عن الحرب المندلعة – و كأنها توقفت يوماً – وكأننا بحاجةٍ إلى المزيد من القنوط في يأسنا المزمن، قد يكون هذا السجن الآن قد أصبح خارج السيطرة، ماذا سيفعلون بنا؟ هل سيجعلون مننا ذكرى إبادةٍ جماعيةٍ أخرى؟ تصببت عرقاً و ازداد تنفسي ضيقاً قبل أن أعي ما يحدث، هناك عطلٌ في التهوية، لا أستطيع التنفس، وكذلك صديق الطابق العلوي فهو يدق بجنونٍ لم أعهده فيه، ثم حصلت بوضوح.. هزةٌ أرضية! هذا زلزالٌ مدمر! أشعر بالأرض تخسف بنا وتبتلع الهواء، كيف سننجو؟ يا رب! سأهرق مئة دنٍ من النبيذ على مذبحك يا عشتار، سأشعل لكِ شمعةً كل ليلةٍ يا عذراء، سأصلي ألف فجرٍ دون انقطاع يا الله، لكن أدعوك الآن أن أنقذنا، حيثما تكون، نجنا يا الله…
لا أذكر كيف تماماً.. لكن كان هناك نور، بلى حتماً كل هذا اللمعان كان نوراً، و ما غير النور يجعلنا نحن الكبار نخاف و نغمض عيوننا طويلاً؟ في الحقيقة، لم يكن بعد، لكنني رأيته من قبل أن أراه، أتلمس طريقي إلى الباب وأطرقه بقوةٍ عسى أحداً يفتحه لي، وإذا به خالٍ من أي قفل، تشلني المفاجأة لحظات، هل كان مفتوحاً طيلة تلك الشهور القاتمة؟ هل كنتُ سجين أوهامي و عالمي الخيالي؟ هل أنا من اخترتُ أن أُسجن؟ و ازدادت الأصوات كثرةً وعلواً، هل هناك ضحايا؟ أتحسس أطرافي للمرة الأولى منذ وقتٍ طويل، لا أزال قطعةً واحدة، ولكنني أختنق أكثر فأكثر حد الإغماء، يجب أن أخرج من هنا، ولكن..
هذا الجزء يصعب شرحه، لن يفهمه إلا من عاشه.. أن تبق في سجنك من الوقت ما هو كفيلٌ بإفقادك قدرة حسابه، وتحلم في كل ثانية، في كل دقة ساعة داخل كاهلك، أن تتحرر ولو للحظة ثم تغادر حياتك الشقية غير آسف، وعندما تهبط عليك هذه اللحظة التي طال انتظارها، تعلم كم أنت جبان، كم ساقاك اللتان اشتاقتا الجري في هواءٍ طلق تخذلانك بكرسحةٍ اكتسبتها روحك لتضمن لسجنك أنك قادرٌ على خلق سجنٍ أكبر ضيقاً
تلك اللحظة غافلتني وأنا عليمٌ بها، حلمتُها وولدتُها، ثم وأدتُها كأي جاهليٍ أصيل ينتظر أن تكون النبوة وعده، كنت أرتجف أمام الانهيار والضياء وأختبئ داخلي، أترك أنفاسي تمضي في ذعرٍ لا يجرؤ حتى على طلب النجدة.. ترى هل مضيتم يا رفاق؟ لم لم تنتظرونني؟ خيراً فعلتم، ما كان لينجُ أحدٌ منا لو انتظرنا الآخرين عندما هلت تلك اللحظة
أتمدد في انتظار موتي، أعد آخر الزفرات التي يتناقص أوكسجينها باضطرادٍ مرعب، أحدق في النور القريب، كم هو بعيد!
… هناك جزءٌ خالد في أرواحنا يرفض الاستسلام لقوانيننا التي نخترعها، هذا الجزء ذاته هو الذي جعلني أفتح عيني قبل أن تقرر تلك اللحظة ركوب قطار اللاعودة، و أن أزحف، بأصابعي و أظافري، لأخرج، لأصل، آسف أنني أتركك يا صديق الجدران مع طرقاتك الهستيرية، لا أستطيع أن أموت الآن، هذه الحياة هي كل ما لدي، و أنا أريدها، سأذكرك دوماً، إن استطعت عبور هذا النفق الذي لا ينتهي
ما أعرفه أني رغم إيقاني بعدم خروجي حياً كنتُ سعيداً، سعيداً لأنني قررت أن أقاتل وأجرب، لن يسجل التاريخ بطولتي هذه في كتبه المزيفة لأنها حقيقيةٌ فوق طاقة احتماله، فوق قدرته على فهم رجلٍ لا يعلم إلى أين يمضي ولكنه يعاند الموت كي يمضي. في اللحظة التي فقدت فيها آخر قدرتي على الحراك.. قبضت تلك اليد علي
بعد كل هذه الشهور العقيمة يكون أي تواصلٍ مع عالم البشر كفيلاً ببث البهجة في أوصالك مهما كانت اللحظة عصيبة، لكن الملمس البارد الشديد الصلابة لتلك اليد الممسكة بساقي بعزمٍ لا يمتلكه سوى أصحاب السلطة والسطوة بث في خلاياي موجة رعبٍ شلّت تفكيري. لم يخطر ببالي لحظتها إلا أن الموت كان أهون من أقع في تلك القبضة، و ما كان لدي لأقاوم به – إن استطعت – قد نفد و مضى، لا أريد العودة للمعتقل، أرجوكم، و لكنها تجرني باتجاه الضوء، هل يقبضون على الفارين؟ هل سيستمتعون بتعذيبنا قبل قتلنا؟ لم يدعوني مع هواجسي طويلاً، في حركةٍ عنيفةٍ واحدة، كنت قد صرت مِلْك الهواء الطلق والضياء البراق كما حلمت، ولكن معلقاً رأساً على عقب في قبضةٍ نسيت الرحمة وأمسكت بتلابيب جبني. تنبهر عيناي بالنور وتختبئ خلف طبقاتٍ من السواد المصطنع، وأحبس أنفاسي وأنا أنتظر ما سيحل بي الآن بعد كل ما مررت به، عاجزاً بين أيديهم لا أقدر على المقاومة… و جاءتني الصفعة المنتظرة غير المتوقعة، تماماً في أسفل ظهري تكاد تسلخ ما تبقى من لحمي عن عظمي، لها رنةٌ ترهب بها كل من سيأتي عليهم الدور يوماً، و قبل أن أستوعب صدمة المفاجأة كانت الصفعات تنهال على بدني دون توقف. وصرخت… لم أتوقع من نفسي أن أصرخ، فقد كنت خائفاً من أن يسمعوني، و كنت قد يئست من هؤلاء الذين سيستمتعون بعذابي دون شفقة، ورغم ذلك صرخت، وآلمني الهواء الذي اقتحم رئتيّ كأنها المرة الأولى، كنتُ قد اتخذتُ قراري ألا أموت صامتاً، ولمفاجأتي الحقيقية.. توقف الكابوس! أحقاً أخافتهم صرخة مظلوم!؟ ليس هذا هو القانون الذي يسري على الظالمين على حد علمي، كما أنهم اعتادوا تخطي جميع القوانين بلا مبالاة…
أطير في الفضاء لأحط برفقٍ على أرضٍ حنونةٍ طيبة، كم هو طيبٌ عطر الأرض، رطباً أرتجف وأنا أصغي إلى صديقي الطارق وقد هدأت ضرباته قليلاً.. ولكنها تأتيني من باطن الأرض، لا يزال هناك، سأعود لأجلك يوماً يا صديقي، بصعوبةٍ أفتح جفوني المتباطئة والبياض يغشى الرؤية و أرفع رأسي بأنينٍ ضائع لأحدق أمامي… عندها ضربتني ذاكرتي كاملةً كموجة تسونامي… تذكرتُ كل شيء.
حسن الوزان