أمةٌ من الأشجار أنا: أنتشرُ في حقولكم لا أعرفُ حسبي ولا نسبي، ما لي تأريخٌ في تقاويمكم، لكن زمنكم بي يعود إلى زمن الطوفان يوم أن ارتبتُ في حيرةِ حمامةٍ بيضاءَ أعادتني إلى فرحٍ طفوليّ لا محسوبٍ ولا معدود أومأتُ للحمامة معلنةً اشتياقي لكل الطيور التي هجرتني منذ أن فاض التنور وغمرَ الماء كل شيء، منقار الحمامة والذي لونه من لوني التصقَ بأوراقي كنتُ فرحةً بأنه فعل ذلك دون استئذان وحملني برفقٍ ليصلَ إلى نوح ومن معه في سفينته لأكون بشارةً بانتهاء الطوفان وعودة الحياة من جديد، ومنذ ذلك التاريخ غدوتُ رمزاً للسلام في ثقافاتكم وهذا سرُّ سعادتي التي تتجلى في تشابه ثماري زيتون و(عطون ) وناتج عصرهما مع لون عيون الفاتنات منكم ،وريقاتي تغازل الريح تطبعُ عليهنَ القبلات وتحكي لها عن بشرٍ فلحوا وغرسوا وجنوا ثماراً.
في الليل تأوي إليّ الطيور تسردُ لي وهي تغفو بين أحضاني بأمانٍ عناءها وكدها في نهارٍ طويل، فللطيور أيضاً متاعبها، وكثيراً ما نفش في أحضانيَ عصفورٌ ريشه وغرّدَ بصوتٍ مخمليٍّ أنيق ليبثّ لواعج حبه لعصفورته التي تتمنع راغبةً.
أنا الزيتونةُ لا غربيةٌ ولا شرقيةٌ لستُ متطرفة، أهربُ من الحرارة في أشدّها ومن البرد القارس أنا وأختي التينة ـ قسمُ الربّ بأنه خلقكم بأحسنِ تقويم ـ كثيراً ما تجتاحني العواصفُ وأحياناً أكون في مركزها، تحاولُ اقتلاعي، أُعاندها وأبقى راسخةً في المكان لا أنحني.. لا أنكسر.
في أرضي أنا راسخةٌ، تعشقني.. أعشقها، ما بيننا مواويلٌ وأغاني عسعسَ ليلها وتنادمَ مع نهارها وزيتوني كان زينةً على موائدهما.
أنا الزيتونةُ أنثى بريةٌ، أكره المدنَ وأرصفتها وضجيجها، أتغنى بهدوء البراري وهوائها النظيف، أحدثها عن رحلتي الطويلة وما عايشتُ من أرواحٍ، فالبراري تحبُّ الإصغاء ولا تعتدي على الأنوثة.
أنا الزيتونةُ ثُرتُ معكم ضدّ الظلم والطغيان، ما بخلتُ بظلي عليكم وعلى أطفالكم عندما لذتم بي هرباً من طائراتِ الموت، في حقولي نام ثواركم وكثيراً ما سترتهم عن أعينِ الأعداء، مرات كثيرة بكيتُ على شهدائكم وجرحاكم، حفظتُ الكثير من قصص بطولاتكم سأرويها لكل العصافير وللريح لتحمل معها همومي وهمومكم إلى كل الأشجار الأخرى لنكون جميعاً أكثرَ قدرةً على الثباتِ والمقاومة، قصفتني الطائراتُ كما قصفتكم وقُصفتُ بكل أنواع الأسلحةِ الأخرى، ومَنْ هدّمَ بيوتكم جعلَ بعضاً من رفيقاتي أنقاضاً ومَنْ أحرقَ جثثَ شهدائكم أحرقَ كثيراً من كرومي وأشجاري، وبرغم كل وجعي فإن إصراري أن أبقى شارة سلامٍ كما كنت يغرس الفرح في كل ورقةٍ من أوراقي إذا ما حطّتْ عليّ حمامة لتحملَ بعضاً من أوراقي وتطوفَ بها سماءكم معلنةَ انتهاء طوفان الدم هذا…
أسعد شلاش