زيتون – أسعد شلاش
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
ليتنا نمتلك جرأتك يادريد ونعلنها كما أعلنتها صراحة لنكون صادقين بعض الشيء مع أنفسنا أو على الأقل حتى لا نخدع ذواتنا، لكننا كنا جبناء ومرائين لا يعيبك أنك قلتها وأنت مشركاً قبل الإسلام، أما نحن فبعد أن أعلنا إسلامنا مدعين إيماننا بأن لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، والناس كلهم عيال الله مسلطون على أنفسهم وأموالهم وسواسية.
لم يستطع من تسيد على الأمة باسم الدين أن يتمثل هذه القيم، ونزع للبقاء في أبهة السلطان في انقلاب على دين عيال الله، وكان أسوأ تحالف عرفته البشرية بين الكاهن والسلطان، فلم تطل مغادرتنا لمضارب القبيلة، وبقينا نتنكر لغزية لفظاً لكنها واقعاً مازالت تستبد بعقولنا وسلوكنا، فما زلنا ننتج ثقافة (أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب) وليس همنا أيهما حق وأيهما باطل، مازلنا ننتصر لأخينا بعصانا حتى وإن كان ظالماً، وأسقطنا أن انتصارنا له يكون بردعه عن ظلمه، مازلنا نتفاخر بالقبيلة والعشيرة ونخبئ أسماء أجدادنا في قلوبنا تباركنا ونباركها.
والأصح يا دريد أننا تجاوزنا ثقافة القبيلة لكن بالهرب إلى الأمام فتقاسمنا عباءة شيخها وفصلناها براقع ألبسناها عقولنا وغدا كل منا مسخ شيخ قبيلة، جل همه التسيد على من سواه، لوثنا مرض التسيد ولسنا بسادة إلا في الأحلام واللغو والكذب في البديع من الكلام.
نحن يا دريد، أكذب أمم الأرض وبامتياز، رغم أننا نردد كل يوم: يسرق.. يسرق، يزني.. يزني، لكنه لا يكذب، ونضحك ونكذب، نكذب لنهرب من ألف حرام لفقه كهنتنا على لسان رسولنا.
رسموا لنا كيف نأكل، كيف ننام، بأي رجل ندخل الحمام، أحاطونا بشرنقة نسجت خيوطها من عيب وحرام، حتى حسبنا خلقنا نقمة أو انتقام.
كل هذا ولا كهانة في الإسلام وأمهاتنا ولدتنا أحرارا.
نحن أكثر أمة تذكر اسم الله في خطابها وتتعامى عنه في أفعالها، وأكثر أمة تقسم في لغوها لأنها تكذب، نتسيد على ضعفائنا ومن هم بحاجتنا ونستعبد للكاهن والفقيه والسلطان حتى وإن جار.
تغافلنا عن أعظم الجهاد وقول كلمة حق أمام سلطان جائر، حتى صار حاضرنا أشبه مايكون بحبل هزائم وخيبات، لم نبدع فيه لا ما يفيدنا ولا مايفيد أهل الأرض.
ثبتت عقولنا على اجترار الشرح وشرح الشرح وعنعنات أزمنة الناقة والجياد والخيام، واجترار الفكر يعصف بالعقل ويعود به للوراء.
ألف عصر قتلنا رشد وابنه وأباه وكل الراشدين، قتلنا العقل واستسهلنا االنقل، أحرقنا كل الكتب التي تنال من أبهة وسطوة السلطان وتابعيه وتابع التابعيه من الكهنة والمتكهنين، الذين دانوا بدين ملوكهم وتسلطنوا على البسطاء باسم الدين وحملوهم وزر هزائمهم بحجة مضحكة غبية، مفادها أنهم ابتعدوا عن دينهم مع أن شعوبنا من أكثر أمم الأرض تدينا.
ومع ذلك تجاوزتنا كل الأمم التي يسمونها بالكافرة، والتي أعلن كهنتنا باسم الدين أننا أعداء لها وللعالم أجمعين، وهم كل يوم يقرؤننا أن الله لو شاء لجعلنا أمة واحدة وحكمة الله أن خلقنا شعوباً وقبائل لنتعارف وليس لنتقاتل.
رددنا وراءهم منذ أن كنا صغاراً “آمين” بعد أن قال: “اللهم رمل نساءهم ويتم أطفالهم”، دون أن يقولوا لنا أي نساء وأي أطفال، وفي ضحكة معرفية ساذجة بانت عن أنياب فقه نخرةٍ، ادعى كهنتنا أنه لو أردنا تغير الحال والرجوع إلى ما باد من مجدنا، فما علينا إلا العودة إلى الله الذي تخلينا عنه، وكان الأجدر بهم أن يعيدوا الله الذي سرقوه من قلوبنا لنا، فالله لاحاجة له بنا، الله غني عن العالمين، أما نحن فلا غنى لنا عنه، نحن أحوج ما نكون إلى رحمته وعدله، وادعوا أنهم هم وحدهم من يعرف الطريق إلى الله، لذلك علينا أن نشد الرحال بقادتهم لنعود إلى الخلف، إلى زمن الجمال، متناسين أن الله جمال وأن الله ليس له طريق واحد، فالله في القبلة وفي الشرق، الله في الشمال والغرب وليس في جهة الكاهن، الله في كل الجهات وأهمها جهة القلب.
الله في كل زمان، وقد يكون في الأمام أكثر من الخلف، بل هو من يسير بالزمن إلى الأمام، ولهذا كانت غايةُ كل رسله أن يسيروا بعباده إلى الأمام، إلى النور، إلى حياة أفضل للناس كل الناس.
فرّغ الكهنة الدين من قيمه الوجودية، وجعلوه نصوصاً ميتةً قفزوا بها إلى ماقبل زمن نبيه، إلى زمن الوثنية الأولى، ولأنهم لم يستطيعوا أن يطرحوا من عقولهم مكوناتها القبلية، تحايلوا على الدين وأدخلوه قبيلة عقولهم، فصارت القبيلة ديناً، وجعلوا من الدين قبيلةً، سرقوا الله من أمميته وعالميته، وجعلوه قبلياً لهم، ولقبيلتهم الدينية دون سواها، كما فعل من قبلهم اليهود والمسيح، لا بل تفرقوا إلى شيع ومذاهب وفرق، وادعت كل فرقة أنها الناجية، متناسين أن الله رب موسى وعيس ومحمد، وأن الله لليهودي كما هو للمسيحي والمسلم والبوذي والملحد.
الله للعالمين وليس لفرقة دون أخرى والناجي من كانت فرقته الخير للناس، من أي ملة كان، والمسلم من سلم الناس كل الناس من يده ولسانه.
ما حدث يادريد أنه بعد أن قتلوك على شركك قتلوا أبا ذر على إيمانه، وقتلوا الحلاج على أنه مرتد.
سرق الكهنة الدين، وسخره جلّهم لخدمة أمراء وسلاطين مستبدين عادوا بنا وأدخلونا بيت أبي سفيان، لكن هذه المرة ليس طلباً للأمان، بل لينصروه ويعينوه على ظلمه ويحيون من جديد أعرافه ومبادئها وزعامته واستعباده، ما علموا أن بلال آمن بمحمد ورب محمد عندما وعده بالحرية، لم يكن بلال معنىً بالنصوص، كان همه اللصوص الذين سرقوا حريته.
آمن بلال بالحرية ووعى أن الدين حريةً، وليته عرف بعد ذلك أن الكهان أجازوا للسلطان أن يحول كل عباد الله إلى بلال، وليتهم عادوا لوثنيتك صراحةً يادريد، فسارق الفكرة ومحرفها أشد كفراً من تاركها، لكنهم جعلوا من الدين وثنية جديدة وجعلوا من الله (حاشى أن يكون) صنماً احتكروا تمثيله تحت عمائمهم، الله في القلوب ليس بالعمامة والنقاب، الله ليس في الكعبة أو في المعبد فقط، بل هو أكثر ما يكون حيث عباده البسطاء، في الحقل مع الفلاح والراعي في الصحراء ومع القبطان في البحر في المدرسة والشارع، وحتى في الحانة.
الله في كل مكان غيبوا وجودية الدين وجوهره وماهيته لصالح فقه، وغدا الدين على يد كهنته (كومة فقه بعد أن كان باقة قيم)، اختصروا الدين في شعائر وطقوس، والدين جوهره معاملة وسلوك.
آمن اليهودي جار محمد بسلوك محمد عندما عاده في مرضه، مع أنه كان يلقي الأوساخ عند باب محمد وهو من يحملها إلى مكان آخر دون تذمر، آمن اليهودي بسلوك محمد وليس بكتبه والنصوص، لم يعنه الكلام والكتب عناه الفعل والسلوك.
أشاد الكهنة المعابد لله وتركوا أمعاء عباده خاوية وكأنهم لم يسمعوا قول عمر: “بطون المسلمين أولى بها” رداً على من سأله: لماذا لا تكسو الكعبة بالحرير ياعمر؟
عباد الله أولى من معابده، لا خير في أرض كثرت فيها المعابد ويعلم أهلها أن طفلاً أو إمرأةً أو كهلاً بكى فيها من جور وجوع.
مر الشْمِكَلْ بمدينة دخل مسجدها، أدهشه بناءه وزخرفته، استمع إلى الإمام وهو يعظ الناس ويحثهم على الرحمة والعدل والإحسان، وعند خروجه وقع نظره على طفل رث الثياب جالساً على باب المسجد يتسول، التفت الشمكل إلى الإمام وقال: (الإمام من أم الناس بالجوع وليس بالمعبد) وأخّمنُ أن صلاتكم باطلة، يتقبل الله منكم صلاتكم في الصحراء، في الحقل، على التراب، شريطة أن تتوضأ قلوبكم بالناس قبل أن تتوضأ أجسادكم بالماء، لا صلاة لمن توضأ بدموع الفقراء، الله (يسمع تضرع الجياع والمظلومين في كهوفهم أكثر مما يسمع تكبيره من مئذنة شاهقة، سخرت السماء لخدمة الأرض وليس العكس)
صاح الكاهن: “زنديق هذا الشمكل اطردوه من ديارنا فمسعاه إفساد ديننا”.
ابتعد متحسراً، راعه في الطريق نسوةٌ أنهكهن العمل في الحقل.
سأل: أين بعالكم؟ أجابت عجوز السبعين: في المضارب يلغطون عن ثلاثة وأربعة ولايعدلون.
ابتعد ومازال يصيح ويعيد الخراب الخراب.. تهلك أمة مؤمنة بظلم وجور، وتبقى أمة كافرة بعدل، ليس العدل أساس الملك، بل العدل أساس الدين، “اشنقوا السلاطين بأمعاء الكهنة”.
الافكار التي بين قوسين من كتاب عبد الرزاق الجبران