منذ سيطرة حزب البعث العربي الاشتراكي على الحكم في سوريا بعد ثورة الثامن من آذار 1963 التي قادها الطاغية حافظ الأسد , والذي احكم قبضته الأمنية على كافة مؤسسات الدولة السورية ومن بينها المؤسسات الإعلامية والثقافية كالمراكز الثقافية ودور النشر العائدة للقطاعَين العام والخاص , كما قام بإغلاق كافة الصحف والمجلات التي كانت تصدر قبل وصوله إلى الحكم بما أنها لا ترعى مصالحه السياسية في هيمنة النفوذ الواحد على الدولة , إذ يعتبر نفسه حاكم الدولة وقائد المجتمع بحسب المادة الثامنة من الدستور السوري .
ويمكن القول بأنه لم يكن هناك إعلام محايد أو واضح في سوريا على مدار أكثر من أربعة عقود , إذ كان القُطّاع الأكثر ضرراً ويمكننا اعتباره إعلام سلطوي بعثي بامتياز , حيث عاشت الصحافة السورية والإعلام السوري في سجنٍ كبير أثناء حكم حافظ الأسد . ويمكن وصف حالتهما فى تلك الفترة بـ ” الإعلام الأمني الفاسد ” الذي صنع من الصحف والمجلات والتلفزيون منبراً لبث إدعاءاته المتاجرة بالعروبة والقضية الفلسطينية , وكانت الصحف الرسمية الثلاث في سوريا ” البعث وتشرين والثورة ” تفتتح أعدادها دوماً بأقوال القائد ـ التاريخي ـ حافظ الأسد وضيوفه الأمنيين، كما هو الحال في نشرات الأخبار بالتلفزيون السوري بما في ذلك الأرضية والفضائية.
وفي هذه الفترة المزرية من تاريخ الإعلام السوري والصحافة السورية لجأ الكثير من الكُتّاب والصحفيين إلى النشر في الصحافة العربية الأخرى كالصحف اللبنانية والصحف العربية الصادرة في لندن ومعظم العواصم العربية والأوروبية , ولا ننسى تعمد الصحافة السورية الاعتماد على صحفيين وكًتّاب مأجوريين عرفوا بـ ” أبواق النظام ” وهم مجموعة من الصحفيين يتمتعون بحمايّة أمنية ويكتبون فقط ما يطلبه النظام السوري منهم بما يرضي أهوائه. إذ ترك الكثير من الكُتّاب والصحفيين النشر في الصحافة السوريّة طيلة حكم البعث ورفضوا الظهور على شاشاته التلفزيونية فضلاً عن مغادرة البعض الي خارج البلاد , كما تم اعتقال العديد منهم لسنوات طويلة لفضحهم ممارسات هذا النظام في وسائل إعلام أجنبية . ونذكر أيضاً بأن الإعلام في ظل حكم حافظ الأسد كان منافقاً بجدارة ولابد من الإشارة إلى حادثة المذيع الذي بكى في نقل خبر وفاة باسل الأسد في حادث سير , ليتم فيما بعد تعيينه مديراً عاماً للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون دون الأخذ بعين الاعتبار لكل من المهنية والخبرة وكذلك الكفاءة في ذلك , بل أن دموعه كانت أكبر من كل الشهادات الجامعية والخبرة , وليس هذا فحسب بل أن شعار ” سوريا الأسد ” الذي نراه اليوم كان قد ظهر على لسان أحد مذيعي التلفزيون السوري ومازال متداولاً في كل مؤسسات الدولة إلى الآن .
وكانت هناك صحف ومجلات سوريّة عدّة تُطبع وتوزع في داخل سوريا سراً فى عصر حافظ الأسد ومنها الصحف الكُردية التي إن ثبتَ وجودها مع أي سوري كان يُسجَن لعشرات السنوات دون أي تهمة أو محاكمة بحجة الخطر على أمن الدولة وتقسيمها , وفي كثير من الأحيان في هذه الفترة أضطر العديد من الكُتّاب والشعراء والصحفيين السوريين كما أشرت سابقاً إلى الصحافة العربية في لبنان ومعظم العواصم الأوربية , وينبغي التنويه إلى أن الكثيرين منهم فقدوا أسمائهم وكذلك أفكارهم التي كتبت في سبيل هذا الشعب لأنهم لجئوا إلى الكتابة بأسماءٍ مستعارة , خوفاً من معرفة السلطات السورية بهذا الأمر ومن ثمَّ اعتقالهم وقد حدثت حالات كثيرة أودت بحياة البعض , كما توقف الكثيرون عن الكتابة في هذه الفترة على الرغم من إبداعاتهم .
ومع وصول الأسد الابن إلى الحكم بعد تغيير الدستور في خمسة دقائق , برزت مرحلة التطوير والتحديث التي سيقودها بشار الأسد بالوراثة , وفي هذه المرحلة ازداد الحديث عن كثرة الفساد في المؤسسات الإعلامية إلى أن اكتشف السوريون فيما بعد أن حملات الفساد وشعار ” الإعلام الحُرّ وسوريا الحديثة ” الذي عُرِض على شاشات التلفزيون السوري في بداية عام 2000 ماهو سوى كذبة كبيرة جداً تعلمها الابن الطبيب من الأب المقبور حافظ الأسد دون وجود أي نيّة لفتح ملفات الفساد في أي مؤسسة حكومية ولاسيما من بينها المؤسسات الإعلامية ويمكننا القول هنا بالاستناد على المثل الشعبي الذي يقول : ” رجعت حليمة لعادتها القديمة ” , إذ عادت الصحف لانشغالها المؤبد في الحديث عن إنجازات ومكرمات حزب البعث وقيادته الحكيمة التي يشير إليها إعلام السلطة بقلعة الصمود والتصدي , فيما تعتبر بشار الأسد قائد المقاومة والممانعة ـ
وأبرز ما عرفه السوريون عن الصحافة المحلية هو الكذب قولاً واحداً , بمعنى أن هذه الصحف كانت تعيش في كوكب آخر , فهي كانت بعيدة كل البعد عن مشاكلهم السياسيّة والخدميّة , فأغلب العناوين الرئيسية فيها كانت تتحدث عن مضافة الأسد وضيوف السلطة , وأيضاً الحديث عن تدشين مشاريع اقتصادية ضخمة لا أحد يدري أين ستذهب مردودات هذا المشروع أو متى سينتهي العمل بها , وبمعنى آخر لم يرَّ السوريون من هذه المشاريع إلا الاحتفالات التي كانت تقوم لأجلها وكان يكتب عنها بالصحف السورية الرسمية تحت وصف ” العرس الجماهيري “.
وتعمدَّ الإعلام السوري إلى إخفاء وطمس الحقيقة كاملةً , إذا وصف هذا الإعلام انتفاضة 12 آذار قامشلو 2004 بعمليات شغَّب في الملعب البلدي في مدينة ‘ قامشلو‘ شمال شرق سوريا , كما أنتج فيلم كاذب ومفبرك عن اغتيال رفيق الحريري , وفيلماً أخر عن الشيخ العلّامة محمد معشوق الخزنوي الذي قتلته السلطات السورية بعد خطفه في 10 أيار / مايو 2005، ومع مجيء الثورة السورية في 15 آذار / مارس 2011 تمسك الإعلام السوري بهذه التمثيليات وكذلك طمس الحقيقة من جديد , إذ أنه وصف الجماهير الثائرة بالمٌندسين والإرهابيين والاعتماد على شهادات كاذبة من إعلام أمني , وانطلقت من رحم هذه المعاناة مع أنامل أطفال درعا العشرات من الصحف والمجلات ووسائل الإعلام الثورية , تلك التي عملت على نقل الوقائع التي تجري في مدينة وأخرى بكل شفافيّة , في الوقت الذي لم يسمح فيه النظام السوري بدخول أي مراسل صحفي محايد لنقل ما يجري على الأرض باستثناء من يشاركها في قتل الشعب السوري , كما أسمت القنوات التي تعتمد على الفيديوهات التي يصورها الناشطين بقنوات الفتنة تارةً والمغرضة تارةً أخرى , وكان الهدف من هذه الصحافة هو دعم الشعب السوري بعكسها لواقعهم المرير وطموحهم في الحرية والكرامة .
وخلال فترة قصيرة ازداد عدد الصحف والمجلات التي يشرف عليها نخبة من الشباب السوري المثقف في الداخل والخارج وكذلك الناشطين الميدانيين حيث تجاوز عددها العشرات ما بين الإلكترونيةٍ والورقية , لتؤكد جميعها إن الصحافة والإعلام لم يكن لهما أى وجود في عهد الأسدَين ، الأب والابن , وهي الآن في طور الازدهار والكلمة النبيلة. إذ تُطبَع وتوزع في دول الجوار والداخل السوري العشرات من الصحف والمجلات الثورية , منها في القاهرة كجريدة ” سوريا اليوم” وهي سياسية ثقافية يوميّة يشرف عليها مجموعة من الشباب السوري في تيار التغيير الوطني المُعارض , وكذلك جريدة ‘ الكرامة ‘ وهي أيضاً ثقافية سياسيّة شهريّة مستقلة تصدر في العاصمة الأردنية عمّان وتوزع في الداخل السوري وبكثافة في المناطق الجنوبية مثل ريف دمشق ودرعا , وتشهد الصحافة السورية الحُرّة نقلة نوعيّة في تركيا , حيث تصدر فيها العديد من الصحف والمجلات , منها ما هو أسبوعي وشهري ونصف شهري وبأعداد كبيرة تتجاوز الـ 4000 نسخة في كل عدد مثل جريدة ” تمدن ” وهي سياسية ثقافية متنوعة , تصدر في إسطنبول وتوزع في كافة مدن الداخل السوري , يرأس تحريرها الزميل الصحفي ” دياب سريّة ” وهو معتقل رأي سابق قضى سنواتٍ عديدة في سجن “صيدنايا ” ، إلى جانب كادر إعلامي متميّز منهم الزميلة ” نورا منصور ” وهي أمين تحرير الجريدة و “جمعة عكّاش ” مسؤول القسم الكردي في الجريدة وآخرون .
وكذلك مجلة ” تواصل ” التي كانت تطبع وتوزع بشكلٍ كبير في تركيا بين السوريين وفي الداخل السوري أيضاً وكان يشرف على تحريرها الكاتب ” نجم سمّان ” إلا أنها توقفت عن النشر لأسباب مالية , الي جانب عدد آخر من الصحف والمجلات مثل مجلة “حنطة ” التي يرأس تحريرها السيد ” ناجي الجرف ” وهي مجلة فكرية ثقافية نصف شهرية , يتم الآن في خطوةٍ جريئة طباعتها في الداخل السوري في المناطق المحررة .
وانتشرت في العواصم العربية مجموعه من الصحف والمجلات الثورية الأخرى مثل مجلة ” بُناة المستقبل ” وهي سياسية ثقافية شهريّة , يشرف على تحريرها كل من الدكتور ” رياض نعسّان آغا ” وزير الثقافة السابق ، والصحفي البارز ” إبراهيم الجبين ” الذي كان يقدم برنامج ” الطريق إلى دِمشق ” على شاشة تلفزيون الأورينت , بالإضافة إلى عددٍ كبير من الكُتّاب والصحفيين السوريين الذين يكتبون في هذه المجلة بكل جرأة وشفافية ويقوم بتمويلها رجل الأعمال السوري المهندس ” وليد الزعبي ” .
ولابد من الإشارة إلى الصحافة الكردية السورية الثورية التي تشهد أيضاً نقلة نوعية أيضاً , كمجلة ” السنابل ” و ” جرا / فانوس ” التي تصدر في عامودا , وكذلك ” ربيع ” التي تصدر من ” كركي لكي ” ويشرف على تحريرها نخبة من المثقفين الكورد في سوريا , منهم ” آراس حاجي ” رئيس تحريرها .
أما في إقليم كردستان العراق , فهناك أيضاً العشرات من الصحف والمجلات التي تصدر في مدينة ” أربيل ” عاصمة الإقليم لتوزع في الداخل السوري في المناطق الكردية في سوريا منها ” خويبون ” التي يرأس تحريرها الكاتب ” جان بابير” , كما أسست فيها نقابة للصحفيين الكورد السوريين تحت رعاية وزارة الإعلام في إقليم كردستان العراق وتقيم أيضاً دورات صحفية للناشطين السوريين بغض النظر عن إنتماءاتهم الدينية والعرقية ويشرف عليها الكاتب الصحفي والإعلامي ” سليمان كرو ” المنسق الإعلامي السابق في المجلس الوطني السوري .
وتعاني هذه الصحافة أيضاً، إلى جانب ازدهارها وامتلاكها للمهنية والحقيقة، من مشاكل عديدة على رأسها الدعم المادي الذي يقدم من جهات أجنبية مختلفة , فقد توقفت العديد من الصحف والمجلات عن النشر بسبب توقف الدعم المادي لها بالآونة الأخيرة , كما استمرت بعضها بجهود فردية وإمكانيات متواضعة , الي جانب ذلك فهي تعاني من صعوبة نقلها للداخل في بعض الأحيان وخاصة بعض إغلاق الحدود من الجانب التركي , إضافةً لمضايقات ‘ داعش ‘ والنظام السوري بحق الإعلاميين والناشطين وكذلك خطفهم وتصفيتهم في حالات كثيرة إلا أن هذه الصحافة وبالرغم من كل هذه الظروف تبقى المنبر الوحيد الذي يصرخ عبره كل السوريين لنيل حريتهم وكرامتهم , فهي تحررت من القبضة الكارثية لتصل إلى الازدهار .
جوان سوز