الجمهورية – صادق عبد الرحمن
كانت قوات النظام السوري والميليشيات المساندة لها قد سيطرت مساء الخميس الثاني عشر من تشرين الثاني عام 2015 على بلدتي الحاضر والعيس في ريف حلب الجنوبي. وبالتزامن مع ذلك التقدُّم المدعوم بالطيران الروسي، تحدثت الأنباء عن نية قوات النظام التوجه نحو مدينة سراقب الاستراتيجية في ريف إدلب، وترافقت تلك المعارك مع تدفق آلاف النازحين من ريف حلب الجنوبي إلى سراقب.
من بعيد بدت هذه الأنباء مخيفةً بالنسبة لنا نحن المقيمون خارج البلاد، لكن الأصدقاء في سراقب أكدوا على نحو قاطع ليس فيه ارتعاشة خوف، أن هذا لن يحصل، وأن العكس هو ما سيكون، لأن مقاتلي جبهة ثوار سراقب توجهوا مع مقاتلين من بقية فصائل جيش الفتح إلى ريف حلب الجنوبي، وأن ما يُشاع هو مجرد أكاذيب لتحطيم المعنويات. وهو ما كان فعلاً، إذ قدّمت سراقب بعضاً من أبنائها شهداء في تلك المعارك، وتم إيقاف تقدم قوات النظام في الأيام التالية، ولا تزال المعارك على جبهات ريف حلب الجنوبي مستمرة حتى لحظة كتابة هذه السطور.
سراقب… جدار الشيخ منصور
ليست سراقب ضاربةً في جذور التاريخ كتجمعٍ سكاني، لكن المنطقة ومحيطها مسكونة بالإنسان منذ الألف الرابع قبل الميلاد على الأقل. وليس ثمة إجابة واضحة على مصدر اسم هذه المنطقة ومعناه، لكن أقدم ذكرٍ معروفٍ لها جاء في حكاية تغريبة بني هلال الشعبية ذائعة الصيت، حيث جرت معارك بين الهلاليين والسلطان المملوكي برسباي في سهل سراقب، وأفضت إلى عقد اتفاقٍ يقضي بعبور بني هلال للمنطقة نحو الجنوب بسلام.
سهل سراقب الخصيب الاستراتيجي يقع في منطقة بالغة الأهمية على الطريق الواصل بين حلب ووسط بلاد الشام وغربها، وتُشير المصادر التاريخية والمرويات الشائعة في المنطقة أنها كانت سهولاً زراعية فيها خانٌ لراحة المسافرين وتوفير احتياجاتهم منذ العهد المملوكي، وأنها بدأت بالتحول إلى تجمعٍ سكاني منذ القرن السابع عشر، منذ تزايدَ مرور المسافرين والقوافل التجارية والمواكب السلطانية والأميرية على الطريق بين سهول شمال حماة وحلب، وهو الطريق الذي يمر عبر معرة النعمان، خان السبل، خان سراقب، خان العسل، وصولاً إلى حلب.
بدأت عائلات جدار الشيخ منصور1 المجاورة بالانتقال تباعاً إلى محيط الخان لتأمين الخدمات للمسافرين والتجارة، وتمّ بناءُ خاناتٍ وحمّاماتٍ ومساجد عديدة في القرية الناشئة، وواصل ساكنوها زراعة سهولهم الخصيبة أيضاً. عائلات جدار الشيخ منصور كانت هي العائلات المؤسسة لحاضرة سراقب، وتَرَكَ العملُ في التجارة والتواصلُ الدائم مع مسافرينَ من كل أنحاء المعمورة أثرهُ على شخصيتهم وطباعهم.
سكان سراقب كانوا ولا يزالون قادرين على التكيّف مع جميع الظروف، أورثتهم التجارةُ حُسنَ اقتناص الفرص والقدرةَ على الاستقلال عن مؤسسات الدولة في تأمين أسباب الحياة، وأورثتهم الزراعةُ ومستلزماتُ تأمين المسافرين اعتداداً بالأرض، وعاداتٍ راسخةً تُلزمهم بحسن الضيافة، وإغاثة من تقطَّعت بهم السُبُل.
هذا ما تثبته سيرة سراقب في سنوات الثورة، وقبلها أيضاً.
القرية المسالمة.. المدينة الثائرة
كانت سراقب وقتَ انهارت السلطنة العثمانية قرية صغيرةً في شمال بلاد الشام، يقطنها بضعة آلافٍ من السكان، ويعيشون بالاعتماد على التجارة، والزراعة في أراضيهم التي يسقيها ماء الجمع، ولاحقاً ماء عشرات الآبار، التي صارت تعدّ بالمئات في يومنا هذا، سراقب قريةٌ بلا ينابيع.
أهلُ سراقب لا يجنحون إلى العنف في حلّ مشكلاتهم، ثمة وجهاء البلدة الذين يجدون الحلول لجميع النزاعات بين أهلها، ومعركةٌ بين عائلتين سقطَ فيها ثلاث ضحايا هي كل ما تختزنه ذاكرتهم من أحداث عنفٍ داخلية خلال المائة العام السابقة على الثورة. في القرية مخفرٌ قديم كان مخفراً فرنسياً، وهو آخر مخفرٍ غادره الجنود الفرنسيون في شمال سوريا، وهو نفسه صار مخفراً سورياً «وطنياً»، ثم محكمةً شرعيةً اليوم.
لم تنجب سراقب شخصياتٍ كان لها دورٌ سياسيٌ بارز في سوريا «المستقلة»، كانت القرية مشغولةً بالتجارة والتعليم والبناء بالاعتماد على قدراتها الذاتية، وبأقلّ قدرٍ ممكن من الاحتياج لمؤسسات الدولة. وصلَ عدد سكانها إلى أربعة عشر ألفاً في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وكان فيها تياراتٌ سياسية، أبرزها الأخوان المسلمون، واليساريون البعثيون والشيوعيين.
يقول المدرّس والباحث عبد الله برغل من مواليد عام 1948، وترجع أصوله إلى بلدة كفرنبل بريف إدلب، لكنه مقيمٌ في سراقب منذ عام 1953، إن «أبناء البلدة من التيارات السياسية المختلفة كانوا يتظاهرون بالمئات ضد بعضهم بعضاً، ويملأون سماء القرية بالصراخ والهتافات، لكن صِدَاماً واحداً لم يحصل بين المتظاهرين فيها طيلة مراحل الاضطرابات السياسية والانقلابات العسكرية في البلاد. كان الانتماء الأسري والعشائري أقوى من كل انتماءٍ سياسي، وكان وجهاء البلدة من عائلاتها الكبيرة وأبرزها عبيدين والقدور حاضرون دوماً، وكان للقرية (عكيدٌ) أيضاً، وهو (شيخ الشباب) فيها، وآخر عكيدٍ معتبرٍ في سراقب كان الرجل المحترم وقوي البنية دعاس القدور، ذلك قبل أن تنال الديكتاتوريات العسكرية المتعاقبة، وآخرها نظام الأسد، من فكرة الزعامة المحلية لصالح فكرة السيطرة الأمنية المطلقة».
يروي الأستاذ عبد الله بعضاً من مآثر القرية، يقول إنه «مرّت فرقةٌ من الجيش العراقي الذاهب من حلب إلى جبهة الجولان عام 73، فقام أهل سراقب بإطعام كامل الفرقة على نفقتهم أثناء استراحة مقاتليها في القرية». ويقول إن من مآثرها أيضاً «قلةُ عدد (الرفاق) البعثيين المتنفذين فيها خلال حكم الأسدين الأب وابنه، وعزلتهم الاجتماعية، وقلةُ عدد الموظفين الحكوميين أيضاً. وارتفاعُ نسبة التعليم، إذ اقتربت من غياب الأمية بين الذكور قبيل اندلاع الثورة، كما أن 80 % من إناثها دون سن الخامسة والثلاثين متعلماتٌ أيضاً. كان الأيتامُ أفضلَ الناس غذاءاً في سراقب، لم يكن أيتامها وفقراؤها يجوعون أبداً، فمن طعام كلّ عائلةٍ نصيبٌ لهم حتماً».
كغيرهم من سكان حواضر سوريا المنكوبة، دفعَ أبناء سراقب ثمناً باهظاً لأحلام الأسد السلطانية في الثمانينات. مائةٌ وخمسون شاباً من كوادر الأخوان المسلمين اعتُقِلوا ولم يرجعوا أبداً إلى بيوتهم، وعشرات المعتقلين الذين عادوا إلى بيوتهم بعد سنوات طويلة من عدة تيارات سياسية أبرزها الأخوان المسلمون، والحزب الشيوعي- المكتب السياسي.
خلّف ذلك في الذاكرة الجمعية لأبناء سراقب جروحاً غائرةً ظهرت آثارها جليةً لاحقاً، لكن القرية كبرت وازدهرت حتى صارت بلدةً ثم مدينةً صغيرة، وصار فيها منطقةُ صناعية ضخمة. «البراعة والزراعة» حسب تعبير الأستاذ عبد الله كانت أبرز مصادر انتعاش الحياة في البلدة، التي صار فيها أكثر من أربعين ألف نسمة قبيل اندلاع الثورة، وحيٌّ كبيرٌ للبدو الذين بدأوا الاستقرار فيها منذ السبعينات، وحيّان للغجر الذين استقرّوا فيها أيضاً.
لم يكن في البلدة فقراء أو معدمون، ولم يكن فيها أوضاعٌ اقتصاديةً مزرية، بل كانت تبدو كما لو أنها على وفاقٍ مع السلطة، لكن أبناءها تظاهروا ضد حكم الأسد مبكراً، في الخامس وعشرين من آذار عام 2011.
لقد كانت ثورةَ كرامةٍ خالصة، أو لعلها ثورةُ فرصةِ الخلاص التي قد لا تُعوَّض.
الثورة السلميّة.. الثورة المسلّحة
بعد صلاة الجمعة في الخامس والعشرين من آذار عام 2011 كانت مظاهرة سراقب الأولى إذن، الشعاراتُ التي عمّت البلاد في ذلك اليوم صدحت نفسها في سماء سراقب، الهتاف للحرية والهتاف إيذاناً بنهاية عهد الخوف، والهتاف نصرةً لدرعا.
لم تتم مواجهة هذه المظاهرة بالعنف، ولا المظاهرات التي تلتها، كانت تلك سياسة النظام في أغلب قرى ريف إدلب في تلك المرحلة2، عدمُ الاحتكاك مع المتظاهرين إلا عند الضرورة القصوى، واللجوء إلى جمع المعلومات بالاعتماد على المخبرين والعمل على اعتقال وترهيب منظمي الحراك السلمي، ومحاولة استرضاء الوجهاء والأعيان والسكان بطرقٍ مختلفة.
توالت أيام الجمعة، وتوالت المظاهرات في المدينة وتصاعدت على إيقاع اتساع رقعة الثورة وتزايد أعداد الشهداء في وسط البلاد وجنوبها، وكان غسّان العبدو أول الضحايا من أبناء سراقب.
كان غسان العبدو يؤدي خدمته الإلزامية في الفرقة الخامسة بريف درعا، وتوفي يوم الخامس والعشرين من نيسان عام 2011 بطلقٍ ناري. قالت سلطات النظام إنه قُتِلَ على يد المجموعات الإرهابية المسلحة في درعا، وتم تسليم جثمانه إلى عائلته في سراقب ليتم تشييعه شهيداً «للوطن»، لكن عائلته وأصدقائه قالوا إن النظام قام بتصفيته لأنه رفض إطلاق الرصاص في درعا، وتم تشييعه بوصفه أول شهداء الثورة من أبناء سراقب، وانقلبَ تشييعه مظاهرةً حاشدة، طُرِدَ فيها ممثلوا النظام خارج التشييعِ ومجلسِ العزاء، كان ذلك في السادس والعشرين من نيسان.
لم تتغير الخطة الأمنية العامة التي كانت سلطات النظام تتبعها، لكن التصعيد الشعبي في سراقب تم الرد عليه بأول حملةٍ أمنية واسعة النطاق، في الأول من أيار عام 2011، حيث تم اعتقال عشرات الشبان من بينهم بعض منظمي الحراك السلمي في المدينة. غير أن هذا تبعه تصاعدُ المظاهرات ووضوح شعاراتها المطالبة بإسقاط النظام من جهة، وتزايدُ الاعتقالات من جهة، حتى كان يوم الثامن من حزيران، عندما اعترض مئات المتظاهرين من أبناء المدينة الرتل العسكري المتجه إلى مدينة جسر الشغور، ما أدى لاستشهاد أول الثائرين السلميين في المدينة برصاص عناصر الرتل، الشهيد طلال الحاج قاسم.
أمعنَ النظام في إطلاق النار على المتظاهرين السلميين في عموم أنحاء البلاد، وإن بقي على سياسته التي تقوم على أقل قدرٍ ممكن من الاحتكاك بالمتظاهرين في ريف إدلب، حتى جاء شهرُ رمضان الذي انقلبت المظاهراتُ يوميةً فيه بعد صلاة التراويح، وباتت مظاهرات سراقب تطالبُ بإسقاط النظام وإعدام الأسد، ويُرفع فيها علم الاستقلال، الذي بات رايةً للثورة السورية.
أعلن النظام نهاية كل أشكال سياسات الاحتواء في ريف إدلب وعموم سوريا في شهر رمضان من ذلك العام، وفي سراقب جاء هذا الإعلان على هيئة اقتحامٍ بعشرات الدبابات وناقلات الجنود المدرعة للمدينة التي لم يرفع فيها أحدٌ سلاحاً، وذلك في الحادي عشر من آب، حيث نفذ عناصر الجيش بمرافقة عناصر الأمن حملات اعتقال واسعةً طالت نساءً وأطفالاً وشباناً، وداهموا بيوت منظمي الحراك السلمي الذين تمكن عدد منهم من النجاة بالتخفي في المزارع المجاورة.
كان الهدف من ذلك إرهاب السكان، وإطلاق رسالةٍ مفادها أن عهد العنف الدموي قد بدأ، وأن أي مقاومةٍ أو احتجاجٍ بعد الآن سيُردُّ عليها بسلاح الجيش.
وصلت الرسالة بوضوحٍ إلى أهالي سراقب، وبعد انسحاب المدرعات واتخاذ الجيش نقاط تمركزٍ له في محيط المدينة، وفي نقطة الإذاعة داخلها، بدأ النقاش في أوساط الناشطين وأهالي المدينة حول مسألة مواجهة النظام بالسلاح، على خلفية بدء الانشقاقات في جيش النظام، وظهور مجموعات مقاومة مسلحة تحت مسمى الجيش السوري الحر. يقول رائد رزوق، 40 عاماً، من أبناء سراقب: «تأرجحت النقاشات الحارة والساخنة في المدينة بين القول بأن السلاح هو الوحيد القادر على حماية أهالي المدينة، وبين ما سيجلبه التسليح من فوضى السلاح وإرادة الممولين وردّ النظام العنيف المتوقع، لكن الأمر لم يستغرق طويلاً حتى سبقت الأحداث نقاشنا هذا».
استمرّت التظاهرات والمداهمات والاعتقالات في أحياء المدينة، وفقدت سراقب أول شهيدٍ تحت التعذيب من أبنائها، ولعل استشهاده المأساوي كان من العوامل التي دفعت نحو حسم النقاش العام حول مسألتي السلمية والتسلح.
بُعيدَ اقتحام المدينة المشار إليه أعلاه، كان الشاب أحمد دعاس القدور عائداً إلى المدينة لزيارة أهله، حيث تم احتجازه على حاجزٍ للأمن العسكري، وتعذيبه حتى الموت. سُلّمت الجثة للمشفى الوطني في إدلب، وتم تسجيل حالة الوفاة على أنها ناجمةٌ عن حادث سير.
تمكنت عائلة أحمد من استعادة جثمانه، وتم تشييعه في مظاهرة غاضبة في الرابع من أيلول، كان الجثمان المشوه جراء التعذيب شاهداً وعلامةً على الدروب التي ستسلكها سوريا خلال السنوات اللاحقة، كانت تلك جريمة كراهيةٍ موصوفة.
في تلك الفترة، وفي وقتٍ يصعب تحديده على وجه الدقة، ظهرت في منطقة سراقب أولى كتائب الجيش الحر، كانت تلك كتيبة النور بقيادة أنور دعاس القدور. خاضت الكتيبة عدة اشتباكات متفرقة على أطراف سراقب مع دوريات الأمن والجيش والشبيحة، غير أن شخصية قائدها أنور أثارت جدلاً في المدينة.
يقول بعض الأهالي إن أنور كان يسطو على السيارات المدنية العابرة على طريق حلب دمشق الدولي، وهذا ما كان يرفضه كثيرون في المدينة، غير أنه كان ثائراً شجاعاً بالنسبة لكثيرين آخرين. يقول رائد رزوق: «على الرغم من ذلك، يبقى أنور ذلك السوري الثائر البسيط الذي فُرِضَ عليه حمل السلاح دفاعاً عن أهله ومدينته. لا يعني ذلك أنني أوافق على كل ما كان يقوم به، لكنه يبقى من أوائل الذين أسسوا الجيش الحر».
اختفى أنور في ظروفٍ غامضة في السادس من كانون الثاني عام 2012، ولا يمكن لأحدٍ الجزم بمصيره، لكن الأرجح أنه اختُطف على يد عملاء للنظام. وأياً يكن القول والرأي في أنور وشخصيته وأسلوب عمله، فإن مما لا شك فيه أنه شكّل مع كتيبته علامةٌ فارقة، والإنصاف يقتضي أن نقول إنه كان ثائراً فتحَ الطريق أمام ثائرين آخرين.
محمد حاف.. محمدنا
في يومٍ من أواسط أيلول 2011، لم أتمكن من تعيينه على وجه الدقة لتضارب الشهادات، تصدى شابٌ من أبناء سراقب لدورية أمنية يتزعمها «شبيحٌ» محليٌ ملقبٌ بالشابوري. تصدى لها منفرداً ببندقية روسية وأجبرَ عناصرها على التراجع، وتمكن من إنقاذ واحدٍ من أصدقائه من الاعتقال.
لقد كان ذلك الشاب هو محمد مصطفى باريش، الشهير بمحمد حاف.
سطعَ نجم محمد حاف في سراقب منذ بداية التظاهرات في المدينة، لقد كان دائماً على رأس المظاهرات يهتف للحرية ويطالب بإسقاط نظام الأسد، واستمر في ذلك بعد اقتحام المدينة في الحادي عشر من آب،وكذلك بعد أن بدأت سراقب تسير على طريق الثورة المسلحة.
لم يكن اشتباك محمد حاف مع مجموعة الشابوري أول إطلاق رصاصٍ على عناصر النظام في سراقب، لكن الحدث كان مفصلياً على نحوٍ حاسمٍ على أي حال، ومنذ ذلك الوقت بدأت مجموعات صغيرةٌ تتسلح في المدينة وتتصدى لدوريات الأمن والجيش والشبيحة، ومن بينها كتيبة معاوية بقيادة حاف، وكتيبة النور بقيادة أنور دعاس التي سبقت الإشارة إليها.
خاضت هذه المجموعات والكتائب مواجهات مع دوريات النظام في محيط سراقب وفي قلبها أحياناً، واستمرت المظاهرات في المدينة، وكان محمد حاف حاضراً هنا وهناك، يهتف للحرية في الساحات العامة، ويشارك بالدفاع عن الساحات نفسها مع شبّان المدينة بأسلحتهم المتواضعة.
لجأ النظام إلى أسلوب القصف العشوائي بالهاون والقنص لإرهاب المدينة وإحداثِ شرخٍ بين المسلحين الثائرين والسكان، ولكن دون طائل، وبدا أنه يسابقُ الزمن في ريف إدلب الذي بدأت تعمّه الانتفاضات المحلية المسلحة، وبدأ باقتحام مدنها وقراها تباعاً، وحان دور سراقب في الرابع والعشرين من آذار، حيث قامت قوات النظام السوري باقتحامها بعد أن حشدت زهاء 3000 آلاف مقاتل، وأحرقت عشرات البيوت والمحلات التجارية، واعتقلت العشرات من أبنائها وقامت بتصفية عدد كبيرٍ منهم على الفور، من بينهم نساءٌ وأطفال.
استمرت المعارك وعمليات الاقتحام والمداهمات عدة أيام، وتصدّت مجموعات المدينة المسلحة ببسالة لقوات النظام وكبدتها خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، لتنسحب القوات المهاجمة بآلياتها من المدينة في السابع والعشرين من الشهر نفسه، بعد أن عاثت فيها خراباً ودماراً وقتلاً.
عاودت قوات النظام محاولة اقتحام المدينة في الأول من نيسان، لكن اقتحامها استمرَّ ليومٍ واحد فقط، حيث انسحبت بعد معارك طاحنة في اليوم نفسه، ولم تدخل المدينة بعد ذلك أبداً.
برّ محمد حاف بعهده وقسمه لأبناء مدينته، وكما كان حاضراً في كفاحها السلمي ووفياً له، كذلك كان الأمر في كفاحها المسلح، إذ استشهدَ محمد حاف في معارك الأول من نيسان، تاركاً وصيةً سجّلها أحد ناشطي المدينة بكاميرته، وتاركاً حكايا وأساطير وإرثاً يتناقله أبناء المدينة عن بطلهم.
ليست أغنية محمد حاف محمدنا بصوت طفلةٍ من سراقب مجرد أغنية، إنها وثيقةٌ تاريخية.
https://www.youtube.com/watch?v=b5Z6CLoltWs
التحرير
أصبحت سراقب منذ الأول من نيسان عام 2012 مدينةً محاصرة، خمسةُ حواجز حاصرت مداخل المدينة ومخارجها طويلاً، وأمطرتها بالقذائف والموت، لكن الثورة المسلحة كانت تكبر وتنتظم في المدينة وريفها وعموم ريف إدلب. كَثُرَت الكتائب والألوية في سراقب، وظهرت تنظيمات النصرة وأحرار الشام وصقور الشام وغيرها، وبدأت عمليات ضرب الحواجز والثكنات العسكرية تتصاعد.
قاتلَ كثيرٌ من أبناء سراقب في صفوف عدة مجموعات مسلّحة، واستمرّوا في التظاهر والاحتجاج الذي بدأ يتراجع مع تزايد القصف وانتقاله من المدفعية إلى غارات الطيران المروحي ثم غارات الميغ. أصبح طرد الحواجز من محيط المدينة أمراً لا بد منه، فهي تخنقها وتُمطر أبناءها بالقذائف ورصاص القناصين.
كانت فصائل المدينة وريفها، والفصائل الإسلامية التي بدأت تستقطب بعضاً من أبناء المنطقة، تتصدى لمحاولات الاقتحام الصغيرة التي ينفذها عناصر النظام انطلاقاً من حواجزهم ونقاط تمركزهم، وتستهدف تلك الحواجز والتمركزات بعملياتٍ عشوائية وغير منظمة. وتحت وطأة الحصار والفوضى، وتزايد التجاوزات التي يرتكبها بعض مسلحي الفصائل، باتت الحاجة ملّحةً لتوحيد العمل العسكري وتنظيمه كي لا تستمر الفوضى، وكي يصبح العمل العسكري أكثر فائدةً وأثراً.
أعلنت عدة كتائب في سراقب في الثالث من تشرين الأول عام 2012 اتحادها في لواء جبهة ثوار سراقب، وهي كتيبة الشهيد أسعد هلال، كتيبة الشهيد محمد حاف، كتيبة الفرقان، كتيبة شهداء سراقب، كتيبة الحسين، كتيبة السلطان محمد الفاتح، وكتيبة أسود الله.
تعهد اللواء في بيان إعلان تشكيله بالقتال حتى إسقاط النظام، وبالضرب على يد من يعبث بأمن المدنيين، وبالتعاون مع سائر الفصائل والجهات المدنية، وأكد محمد أبو طراد قائد اللواء في البيان عدم تبعية هذا التشكيل لأي تيارٍ سياسي.
بدا أثر هذا الاتحاد واضحاً في الأيام التالية، حيث قامت فصائل اللواء وغيرها بضرب الحواجز وإزالتها تباعاً، لينتهي يوم التاسع والعشرين من الشهر نفسه بسيطرة المقاتلين على حاجز معمل الزيت قرب سراقب، وطرد عناصر النظام منه، وتصبحَ مناطق سراقب وريفها محررةً بالكامل.
داعش في سراقب
واصلت المدينة حياتها على إيقاع القصف المتكرر بالطائرات، وتشييع الشهداء ومعالجة الجرحى والعمل على تأمين أسباب الحياة، وشارك مقاتلون منها في أغلب معارك ريف إدلب ومحيطه.
تمددت تيارات السلفية الجهادية في المدينة كما في غيرها من أرياف سوريا المنكوبة بحرب النظام المجنونة، وأصبحَ لجبهة النصرة وأحرار الشام مقراتٌ فيها، فضلاً عن لواء جبهة ثوار سراقب وغيره من الفصائل الأخرى.
في التاسع من نيسان من عام 2013 أعلن أبو بكر البغدادي قيام الدولة الإسلامية في العراق والشام، ورفضت جبهة النصرة هذا الإعلان، وكان الانشقاق في «قاعدة بلاد الشام» الذي وُلِدَ نتيجته تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش».
كان لتنظيم الدولة مقرٌ في سراقب، لكنها لم تعمد إلى فرض سيطرتها المطلقة هناك، ولم تكن العلاقة بينها وبين فصائل المدينة واضحةً، غير أن توازن القوى في المدينة لم يسمح لها بالتغول وارتكاب انتهاكات واسعة.
في أواخر عهد داعش في المدينة، قام عناصر التنظيم بإعدام ابراهيم قسوم في الثامن من كانون الأول علم 2012 بتهمة سب الذات الإلهية، وأدى ذلك إلى تصاعد التوتر في المدينة، غير أن الأمر لم يطل حتى اندلعت الحرب مع التنظيم في عموم الشمال السوري، وبدأت فصائل إسلامية وفصائل في الجيش الحر بملاحقة التنظيم والسيطرة على مقراته.
يستذكر أسامة الحسين تلك الأيام فيقول: «إن لواء جبهة ثوار سراقب اعتزلَ القتال وآثر الوقوف على الحياد، وكان ذلك رغبةً منه في تجنيب أبناء المدينة ويلات القتال مع التنظيم. وكان اللواء قد حذّر التنظيم والفصائل التي تقاتله وأبرزها جبهة ثوار سوريا بزعامة جمال معروف من أن تتسبب معاركهم بأي أذى لأهل المدينة، وأكد أنه سينضم للمعركة في حال ارتكب أي من الأطراف انتهاكات بحق الأهالي».
تواصلت المعارك، وتمكن مقاتلو جبهة ثوار سوريا من حصار التنظيم في مقراته بالمدينة، وأدت المعارك إلى استشهاد مدنيٍ من أبناء سراقب، «وهو ما دفع لواء جبهة ثوار سراقب إلى إمهال جميع الأطراف 48 ساعة لمغادرة المدينة، فانسحب مقاتلو داعش باتجاه سرمين» كما يقول أسامة الحسين.
انسحبَ التنظيم في السابع عشر من كانون الثاني عام 2014 من سراقب باتجاه سرمين، لكن المدينة صفّت حسابها مع التنظيم قُبيل انسحاب عناصره، إذ تمّت تصفية أميره أبو البراء البلجيكي في الخامس عشر من كانون الثاني بالرصاص داخل الحي الشمالي في سراقب.
العمل المدني، جدران سراقب العالية
في سراقب اليوم مجلسٌ محلّي يدير شؤون سكانها، و«يتمتع بنسبة استقلالٍ كبيرة في قراره وعمله التنظيمي» على ما يقول رئيسه السابق، ومسؤول العلاقات العامة والخارجية فيه حتى اليوم، أسامة الحسين.
كان في سراقب منذ بداية الثورة لجانٌ لتنسيق الحراك السلمي، ويقول الحسين: «تم انتخاب أول تنسيقية في المدينة انتخاباً في الحادي والعشرين من آب في أعقاب اقتحام المدينة، وكنتُ من بين أعضاء التنسيقية المنتخبين، غير أن النظام داهم مزرعةً كنّا فيها قرب سراقب في اليوم نفسه، وتمكن من اعتقال عددٍ منّا، وكنتُ أنا من بين المعتقلين».
يتابع الحسين: «كان الاتفاق أن يتم انتخاب أعضاء جدد كل شهرٍ ونصف، وتابعت عملي مع التنسيقية بعد الإفراج عني في أوائل عام 2012، وتتالى انتخابُ التنسيقيات كل شهرٍ ونصف، وبدأ التفكير بضرورة مأسسة العمل على نحوٍ أكثر تنظيماً في النصف الثاني من عام 2012، وتبلور الاتفاق على إعلان مجلسٍ محليٍ يدير الأمور في المدينة».
بعد ضرب حواجز النظام المحيطة بسراقب وتحرير المنطقة، تسارعت وتيرة العمل على إنجاز مشروع الإدارة المحلية، وشهدت تلك الفترة تجاذبات كبيرة في المدينة حول المجلس وكيفية تأسيسه، وشهدت أيضاً وجود مجلسين محليين أحدهما توافقيٌ والآخر منتخبٌ لفترة وجيزة، سرعان ما انتهت باندماج المجلسين في مجلسٍ واحدٍ مطلع عام 2013.
تمّ الاتفاق مع الفصائل المسلحة على أن يكون المجلس المحلي مستقلاً في عمله، وعلى أن لا تتدخل هذه الفصائل في كيفية إدارته للخدمات في المدينة، وهو الاتفاق الذي تم الالتزام به في معظم الأوقات كما يقول الحسين.
توجد في المدينة محكمة شرعية اعترفت بها الهيئة الإسلامية لإدارة المناطق المحررة، التي تم تشكيلها في ريف إدلب الشمالي أواخر عام 2013 باتفاقٍ بين فصائل إسلامية أبرزها أحرار الشام وصقور الشام، غير أن محكمة الصلح المدنية في سراقب لا تزال تعمل بالتوازي معها، ويعمل المجلس المحلي على تفعيل دورها في المرحلة القادمة على نطاق أوسع.
لا تزال المدارس تفتح أبوابها للتلاميذ بإشراف مكتب التربية في المجلس المحلي، ولا تزال أسواق المدينة وأعمال أهلها مستمرةً رغم كل شيء، وفيها فِرَقُ الإسعاف والدفاع المدني، ويبلغُ عدد قاطنيها اليوم أربعين ألفاً.
المراصدُ تعمل على مدار الساعة، ويتم تحذير الأهالي عبر مكبرات الصوت المثبتة على مآذن المساجد كلما تم رصد طيران النظام، أو الطيران الروسي، متجهاً نحو سراقب. وعند التحذير، يغادرُ كثيرٌ من الأهالي بيوتهم باتجاه المزارع والبساتين، ليعودوا إليها بعد رحيل الطائرات.
يقول أسامة الحسين: «في المدينة اليوم حوالي ثلاثين ألفاً من أهلها، أي أن أربعة عشر ألفاً غادروها منذ اندلاع الثورة، إما إلى مناطق أخرى، أو إلى خارج البلاد. وفيها نحو 10 آلاف نازحٍ من مناطق أخرى، وكانت أولى موجات النزوح الكبيرة إلى سراقب في شهر تشرين الثاني عام 2012 من معرة النعمان وكفر زيتا وغيرها من مناطق ريف حماة الشمالي، ومؤخراً وصلت أعدادٌ كبيرة من النازحين إليها من قرى وبلدات ريف حلب الجنوبي التي تشهد معارك شرسة».
ليس ثمة بيوتٌ مؤجرةٌ للنازحين في سراقب، بل يقطن النازحون في البيوت الفارغة بلا مقابل، من العار أن تأخذ مالاً مقابل فتح أبوابِ عقار تملكه أمام عائلة نازحة إذا كنتَ من أبناء سراقب، هذا واجبكَ الذي لا جدال فيه.
جدران سراقب التي هدمتها مدفعية النظام وطائراته لم تكن مجرد جدران، كانت منبراً للثورة والحب. «حيطان سراقب» التي ذاع صيتها عكست كثيراً من رسائل السوريين وصراعاتهم السياسية، ويقول رائد رزوق: «في أواخر عام 2011، فكرنا بالتعبير على الحيطان عن أمل السوريين وترقبهم وخوفهم، وكانت المسألة عفويةً وغير منظمة وفردية، ما لبثت الظاهرة أن توسعت وتحولت إلى ما يشبه فريق عمل».
ضمت الجدران رسائلَ وأفكاراً سياسية، لم يقبل جميع الأهالي بها في بادئ الأمر، «بعض الآباء اضطروا لطلاء جدرانهم بعد موافقة أبنائهم على الكتابة عليها» كما يقول رزوق، لا سيما أن المدينة لم تكن قد تحررت بعد، وأن النظام كان قادراً على الانتقام منهم، ومن بيوتهم وجدرانها.
ربما تكون تلك المخاوف مبالغاً فيها، لكن هذا لا يعني أن النظام لا يعير اهتماماً لهذا الشكل من أشكال الكفاح المدني كما يحاول كثيرون القول. ويبدو أن النظام شاركَ أيضاً في الحوار على صفحات سراقب الإسمنتية، وهو ما يؤكده رزوق: «عناصر النظام تركوا رسائلهم الصادقة على جدران سراقب في آخر اقتحام للمدينة، الأسد أو نحرق البلد».
غير أن الأمر اختلف لاحقاً، وخاصة بعد طرد النظام بعيداً عن سراقب، إذ أصبحت الظاهرة أوسعَ انتشاراً، وانضم أنصار التيارات الإسلامية إلى المشروع: «كثيراً ما كانت تُشطَب كلمة حرية مثلاً، لتستبدل بكلمة شرع الله، والعكس بالعكس، كما شُوِهَت وجوه النساء المرسومة على الجدران عدة مرات، كان الأمر أشبه بجدالٍ حاد بين أطراف في المدينة حول رؤيتهم لمستقبلهم، لكن مع دخول داعش توقف كل شيء».
«هل كانت الفصائل الإسلامية هي المسؤولة عن تشويه بعض الرسومات قبل دخول داعش؟»، يجيب رزوق: «لا أعتقد ذلك، يتعلق الأمر ببعض الشباب من أنصار التيار السلفي، الرافضين لهوية مشروعنا ورؤيتنا، لكن طريقة تعبيرهم ورفضهم كانت بطمس تلك الرسومات».
«ولكن لماذا لا تعودون إلى مواصلة المشروع الآن؟ هل يشكل هذا خطراً عليكم؟»، يقول رزوق: «لا يتعلّق الأمر بأي مشكلةٍ أمنية الآن، بل يتعلق بأننا نرى أن هذا الأمر انتهى زمنه، وينبغي البحث عن وسائل تعبير وكفاح مدنيٍ وسلميٍ جديدة، والسوريون قادرون على الخلق دون شك، في سراقب وغيرها. لقد أدت الحيطان دورها».
في سراقب أيضاً ولِدَ راديو ألوان بإمكانيات محلية متواضعة في نيسان عام 2013، وهو يكبر كل يوم. ومنها جريدة زيتون التي تُعنى بشؤون ريف إدلب المحلية، وصدر عددها الأول في مطلع آذار عام 2013، وهي لا تزال تصدر أسبوعياً وتتم طباعة نُسخها الورقية في سراقب وتوزيعها مجاناً. كذلك ولدت مجلة الأطفال زيتون وزيتونة في سراقب، وهي بدأت كملحق مخصص للأطفال في جريدة زيتون، ثم أصبحت مجلة مستقلة نصف شهرية تتم طباعة 4000 آلاف عدد منها وتوزيعها على الأطفال مجاناً في بعض مناطق شمال سوريا، وبعض مدن وبلدات الغوطة الشرقية. وتعدّ سراقب كذلك من «معاقل» دوري المناطق المحررة لكرة القدم، وفيها فريقان محليان هما فريق راديو ألوان، وفريق جبهة ثوار سراقب، فضلاً عن أن نادي سراقب الرياضي الذي لا يزال حياً يُرزق.
في سراقب إذن حركة مدنية نشطة ومستمرة رغم الموت والدمار، وآخرها افتتاح منتدى بوابة إدلب في أول يومٍ من أيام هذا العام، وهو منتدىً للعمل الاجتماعي والمدني، وأهم أهدافه أن يكون صلة وصلٍ مباشرة بين السكان والمجلس المحلي.
لا يبدو أن أحداً في سراقب على وشك الاستسلام، إنها حربٌ داميةٌ من أجل الحياة، حربٌ على كل صعيد.
ليس ثمة وراء
بينما كنت أشرعُ بكتابة النص، بادئاً من اللحظة الراهنة، وأغنيةُ الشهيد محمد حاف في أذني بصوت طفلةٍ من سراقب، وصلني نبأ استشهاد صبيةٍ من بنات المدينة في التاسعة عشرة من عمرها، تدعى إنانا شلاش. كانت تلك هي اللحظة التي عرفتُ فيها اسم الطفلة صاحبة الصوت الآسر، إنها الطفلة وقد كبرت وصارت صبيةً، وقتلتها طائرات الطاغية، كان الأمر تراجيدياً على نحوٍ لا يُحتمَل.
لا وراءَ أرجعُ إليه أنا كاتب هذا النص، وقد تورطت حتى بتُّ أشعر أنني أعرف المدينة التي لم أزُرها في حياتي شارعاً شارعاً3. كذلك لا وراءَ ترجع إليه سراقب، وقد اشتدّ عودها وصارت عاصمةً صغيرةً من عواصم البلاد الكثيرة. ليس ما عاشته سراقبُ منذ الخامس والعشرين من آذار عام 2011 قابلاً للعكس كما يحلُم النظام وأنصاره وكثيرون في هذا العالم التعس، وليس أمامها وأمام البلاد كلها سوى مواصلة الكفاح من أجل حياة أفضل.
كان كل ما يعرفه السوريون خارج ريف إدلب عن سراقب قبل اندلاع الثورة أنها بلدة فيها استراحة على طريق حلب دمشق، ومنها لاعب كرة قدم اسمه مناف رمضان ومطرب شعبي اسمه أحمد التلاوي، وغير ذلك لم يكن إلا التهميش وسوء الفهم وقلّة الحيلة.
أما اليوم، فإن في سراقب تاريخاً يُكتَبُ كل دقيقة، وهو تاريخٌ ينبغي أن يوثَّق كما يليق بالتضحيات العظيمة. أكثر من 650 شهيداً، وعشرات المعتقلين، وآلاف الجرحى، وعشرات آلاف النازحين، ومئات المباني المدمرة، وثورةٌ مستمرة.