في تقريرها لشهر كانون الثاني عام 2014 تؤكد الأمم المتحدة أن مكتب الدراسات والأبحاث لديها أطلق نداء استغاثة لحماية الآثار في سوريا لأنها تعتبر إرثا عالميا وتلخص تاريخ جميع الحضارات التي نشأت في منطقة حوض المتوسط على مر العصور. وقد اعتمد المهتمون والباحثون على الصور التي التقطتها الأقمار الصناعية لسوريا خلال الأعوام الماضية والتي يظهر فيها بوضوح مدى الضرر الذي لحق بتلك المعالم الآثرية الهامة. تظهر الصور تعرض نحو 300 موقع أثري للضرر الكلي أو الجزئي بسبب الحرب التي عمت البلاد من مغاربها إلى مشارقها.
كانت سوريا مسرحا لجميع مراحل تطور البشرية فقد شهدت بداية الخلق وبداية الكتابة وبداية البدايات كلها، وكانت المدن السورية منذ الأزل ممالك هامة في المنطقة والعالم بأسره ولكن لعنة الحرب التي مزقت البلاد وقتلت مئات آلاف السوريين وشردت الملايين منهم بعد تدمير مدنهم وقراهم أصابت تلك الحرب قبور الأجداد وآثارهم فلم ينج منها أحد. ففي تقرير الأمم المتحدة الأخير أن صور الأقمار الصناعية تؤكد تعرض 24 موقع أثري هام في سوريا للدمار الكامل وتعرّض 189موقع آخر للأضرار الكبيرة أو الطفيفة بالإضافة إلى احتمال تعرض 77 موقع آخر لأضرار مماثلة بسبب الحرب التي بدأت قبل نحو أربع سنوات ولم تتوقف حتى الآن.
وجاء في التقرير أن الأطراف المتصارعة في سوريا تسببت جميعها وبلا استثناء بتدمير وسرقة المواقع الأثرية السورية والتي صنف بعضها قبل سنوات على أنه إرث عالمي من قبل منظمة اليونيسكو. فجميع القوى المتصارعة في سوريا ثبت استخدامها للحصون والقلاع الأثرية التاريخية كحصون وقواعد عسكرية لإطلاق صواريخها وقذائفها ضد قوات الأطراف الأخرى. ولعل صور قناصة النظام الذين تمركزوا على سطح قلعة حلب وسورها خير دليل على تورط النظام بالدمار الذي لحق بالقلعة خلال سنوات الحرب هذه. أما في حمص فقد تبادل النظام والمعارضة الأدوار باحتلال قلعة الحصن التي يعود تاريخها إلى أكثر من 900 عام وتسبب الطرفان بوقوع العديد من الأضرار في القلعة كتدمير أجزاء هامة منها ووجود فجوة كبيرة في سقفها جراء سقوط القذائف في المعارك الشرسة بين طرفي الصراع.
إينار بيوريو- مدير مركز الدراسات والأبحاث التابع للأمم المتحدة في جنيف – يقول تعليقا على الموضوع: “ليست سوريا وحدها وليس السوريون وحدهم المتضررين من تلك الحرب، إن الجنس البشري بأكمله يفقد آلاف السنين من تاريخه الذي لم يتم كشف النقاب عن جميع جوانبه بسبب ضياع تلك الآثار وتلفها في سوريا”. وبالفعل فإن التقرير الذي ركز اهتمامه حول 18 منطقة أثرية في سوريا يظهر مدى الأضرار التي لحقت بتلك المواقع وعلى وجه الخصوص المواقع المصنفة عالميا “كإرث عالمي” ضمن قائمة اليونيسكو لحفظ التراث العالمي وحماية الآثار. فمدينة حلب التي يعود تاريخها إلى أكثر من 7000 عام والتي ازدهرت طوال عصور طويلة وكانت محط القوافل التجارية على طريق الحرير، شهدت هذه المدينة وأسواقها التجارية القديمة دماراً كبيراً أدى إلى زوال بعض الأسواق والمحال التجارية بشكل تام. وقد تعرض الجامع الأموي في مدينة حلب أيضا لضرر كبير حيث تظهر في الصور مئذنة الجامع وقد انهارت تماما على الرغم من صمودها طوال قرون طويلة حيث يعود تاريخ بناء الجامع إلى القرن الثاني عشر الميلادي.
وإلى الشرق حيث تربعت مدينة تدمر عروسا تختال بجمالها وعنفوانها لآلاف السنين واستطاعت الاحتفاظ برونق معابدها وأروقتها رغم تبدل الممالك والامبراطوريات التي حكمت تلك المدينة، لكنها لم تستطع الصمود أمام جرافات الجيش النظامي وهي تشق طرقا جديدة بين المدافن والمعابد وتتسبب بضياع كنوزها وتلفها بكل همجية. وقد نشرت بعض الصحف الغربية قبل شهور صورا لقبور تدمرية تم قصها لتسهيل حملها وبيعها في أسواق خاصة لبيع الآثار في العالم على يد عصابات التهريب التي قدمت من جميع أنحاء العالم للمشاركة في نهب آثار سوريا. ولم يكن تنظيم الدولة الاسلامية بأقل وحشية من النظام، فبعد إعلانهم سيطرتهم على مدينة الرقة بدأوا بتحطيم التماثيل واللقى الأثرية على أنها أصنام ومن واجبهم تحطيمها ولم يكتفوا بتحطيم تلك التماثيل فبدأوا بتحطيم بعض المعالم الاسلامية بحجة أنها بدع وعليهم محاربتها فقاوموا بتحطيم مسجد الصحابي أويس القرني وضريح الصحابي عمار بن ياسر بحجة أن المسلمين الذين يزورون قبور هؤلاء الصحابة قد انحرفوا عن دينهم القويم. وقد أكد السيد علي شيخموس في وقت سابق هذا العام للعديد من وكالات الأنباء: “أن أكثر من 14000عملية حفر غير شرعية قد نفذت في المناطق الأثرية والتاريخية في سوريا منذ اندلاع الحرب فيها وأن تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) قد قام بتحطيم أحد أهم التماثيل الأشورية في منطقة الحسكة شرق سوريا (تمثال الأم الكبرى) والذي يعتبر خسارة كبيرة للبشرية جمعاء.
وفي حديث مع وكالة الأنباء رويترز قال مأمون عبد الكريم مدير المتاحف والآثار في سوريا أن: “عشرات الآلاف من القطع الأثرية واللقى التي يعود تاريخها لأكثر من عشرة آلاف سنة قد نقلت إلى أماكن خاصة لحمايتها من السرقة بسبب الفوضى التي تضرب البلاد” لكن العديد من المهتمين يتهمون النظام بإخفاء تلك القطع الأثرية وبيعها في الأسواق السوداء بعد إخفاء ثبوتياتها وأرقامها من المتاحف والمراكز التي أودعت فيها سابقا قبل الحرب ويتخذون تصريح مأمون عبد الكريم كإثبات لإدانة النظام بارتكابه جريمة سرقة وإخفاء عشرات الآلاف من القطع الأثرية الهامة والمتاجرة بها”.
قبل أربعة أعوام انطلقت الاحتجاجات السلمية ضد نظام الأسد فكانالردّ على أطفال كتبوا بضع كلمات على جدران مدارسهم باحتجازهم واقتلاع أظافرهم كما رد على المحتجين في شوارع سوريا بالدبابات والطائرات وبعدها بفترة قصيرة جدا استطاع ذلك النظام الفاجر وبمساندة دولية وتواطؤ من ادعوا قيادة الحراك السلمي تحويل شكل الصراع وإدخال البلد في دوامة ليس لها نهاية من الفوضى التي راح ضحيتها مئات آلاف الأرواح ولم تكتف بتدمير حاضر سوريا ومستقبل أبنائها بل عمدت إلى نبش قبور الأسلاف وتحطيمها لمحو تاريخ السوريين إلى الأبد.