في السنوات الماضية لم تكن حالة القلقلة والاضطراب في توزيع مواد التدفئة بعيدة عن المواطن، فالفوضى، وحتى حالة مناقشة توزيع مادة التدفئة (المازوت) كانت تتم بعد هبوط برد الشتاء على بيوت الفقراء، وكان يتم هذا بغباء ملحوظ، وكدلالة على العجز عن التخطيط لأمر بديهي فصلي دوري. وهذا كان يخلق بلبلة في الأسعار، وسوق فساد تصرف فيها الأموال للحصول على هذه المادة الحيوية بطرق ملتوية.
أما مع بداية الثورة السورية فالوضع قد أصبح أكثر سوءاً بمراحل، فمن ناحية تذرع النظام بعدم توفير هذه المادة بسبب عدم توافر الأمن على الطرق التي كان يدعي إحكام سيطرته عليها، واستخدم هذه “الأعطية” الحكومية كمكافأة، في المكان الذي لم تكن التظاهرات قد خرجت فيها بكثرة.
وحين بدأت الثورة طورها المسلح تقلصت المحروقات بكافة أشكالها عقاباً للمدن الثائرة، وبدأت مرحلة إعادة المواطن المدني للعصر الحجري عبر إجباره على البحث عن وسائل بديلة كي يؤمن بعضاً من الدفء له ولمن يعيل، خصوصاً بعد استهداف وقصف الشبكة الكهربائية المتعمد من قبل النظام وقطع الكهرباء الذي بات يمتد لأيام وأسابيع بل في بعض الأماكن لأشهر، كما هي الحال في منطقتي.
لا يمكن للعين أن تخطئ، وبدون كثير جهد، حالات كثيرة جداً من الاعتداء المنظم والعشوائي على الأشجار والأحراج في فصل الشتاء قارص البرودة هذا.
تختلف المسببات، وتتباين ردود الفعل على هذا العمل، فنجد أصحاب الرؤى الكريستالية التنظيرية يستمتعون بترف بالغ، يصل حد الاشمئزاز، بالحديث عن أهمية الشجرة بالنسبة للبيئة وبالنسبة للفترة الزمنية التي تستغرقها للنمو، ويصل بهم ترف الفكر للحديث عن مكانة ظلها الظليل الوارف في فصل الصيف القادم.
غالبية هؤلاء يتحدثون من أماكن تتوافر فيها كافة أسباب المعيشة وتتنوع فيها وسائل التدفئة، وربما عندما يتحدثون يكونون جالسين أمام موقد مشتعل، أو هم ممن يمتلكون أنظمة تدفئة مركزية، وأطفالهم تتورد خدودهم من وهج اضطرام النار فيها.
وعندما تسألهم هل قدموا ولو النزر اليسير مما يكتنزون ليمنعوا حالة الاعتداء هذه، تجد أجوبتهم تتراوح بين التهرب من المسؤولية وبين عجز أنانيتهم على الخروج من دائرة البذل المادي الذي لا يرتجى من ورائه منفعة ما. هؤلاء مشاعرهم المرهفة والحساسة وإدراكهم الأيكولوجي المحيطي لا يقل يباساً عن حطب غاب عنه نسغ الإحساس فالنار أولى به. مواطنيتهم ليس لها علاقة بما يحصل خارج محيطهم الذي يعيشون فيه، وفي حالات أقسى تتوقف لديهم الأحاسيس مع أخوة لهم في الوطن جراء مواقف سياسية طارئة، فما بالك بالخلافات الفكرية أو العقدية المتداخلة والمركبة!
من ناحية مقابلة يتحدث المعتدي المتألم والمجبر ويطلب منك البديل أو التزام الصمت في حال عجزك عن تقديم المساعدة. لسان حاله يقول أطفالي وكبار السن من البشر عندي أهم بمراحل من كل الشجر.
يقول لي أحد المجبرين من المحتطبين: هل سبق لك أن سمعت أسناناً تصطك بانتظام وعلى فترة متواصلة من الوقت والزمان؟ هل سبق لك أن شاهدت أيادٍ لأطفال تبلغ بها الزرقة مأخذها فتمنع وصول الدم للأطراف؟ هل جلست في خيمة لا تعزل عنك شيئاً من قسوة برودة الشتاء؟ هل تابعت خطاباً لجزار ينبح من خلف الشاشات ينتفخ وأولاده ومن حوله من زبانيته من الدفء وهو يتحدث عن الاعتداء على الشجر، بينما نحن في العراء نفترش السماء وننتظر الفرج من رب لا يغفل عن ظلم، ولا عن من أدخل البلاد في عتمة ولعنة سفك الدماء؟
لقد شاهدت يا بني أناساً يحتطبون كثيراً من ممتلكاتهم الشخصية، حتى غرف النوم أحرقوها، كي يحظوا هم وأطفالهم ببعض الدفء، فلا تتحدث عنهم يا بني بإجحاف.
يتابع الشخص قائلاً: يا بني نحن من زرعنا هذه الأشجار ونحن أو أولادنا إن شاء الله سنعيد زراعتها وسنعيد عافيتها للبلاد. ونحن نطلب من العقلاء أن يحتطبوا بعقلانية: من الفروع دون أذية الجذوع. نرفض الاعتداء على الشجر كما هو حال رفضنا للاعتداء على البشر.
سألت طفلاً يرتجف ويقف فوق تنكة صدئة يخرج منها دخان كثيف يعمي الأبصار عن الذي يضعه حتى يصدر مثل هذا الدخان فأجابني ببراءة أنهم لا يوفرون قشور البطاطا المسلوقة وكل أنواع الفضلات!
تذكرت الملحق العلمي لكتاب اللغة الانكليزية لطلاب الشهادة الثانوية والحديث عن إعادة التدوير بطرق علمية وفوائده على المجتمع والبيئة فدمعت عيناي، فهذا الطفل رث الثياب وخفيفها يقوم بتمرين عملي إجباري على الاستفادة لأقصى الحدود من الفضلات بطريقة بدائية وسلبية، ربما ستؤثر على صحته سلباً.
كان هناك وحسب متابعات متواصلة اعتداء منظم، من قبل النظام، المتسبب بإشعال الحروب بين الأهل والجيران، على كل أنواع الشجر والخشب، فقد لوحظ حرق مساحات هائلة من الغابات تقدر أعمارها بعشرات السنين، وبدون أن يرف له جفن، ودون حاجة ماسة، أما الحجة فهي (تطهير) المناطق الحراجية وخصوصاً الحدودية من (المسلحين) ويلاحظ هنا انعدام الحديث عن هذه الجريمة الكبرى بحق البيئة والوطن من قبل الذين يترصدون تحركات المحتاجين، وخرسهم يعطي انطباعاً مقيتاً عن ردة فعلهم (الكريستالية) البالغة النقاء!
تمت ملاحظة اعتداءات منظمة من جهلة وتجار انخرطوا في قطار الثورة لم يوفروا حتى أثاث المدارس الخشبي بكل أشكاله وأنواعه: من المقاعد، للأبواب، وتم تعرية المدارس بطريقة مبكية ومخزية وفاجعة من قبل هؤلاء، وحجتهم كانت عدم توافر البديل وارتفاع مهول في أسعار الوقود بلغ أضعافاً مضاعفة لثمنه في حال توافره.
لا يمكن على الإطلاق تبرير أي حالة اعتداء من قبل هؤلاء فهي سرقة موصوفة مخلة بالأخلاق العامة وتخلخل الثقة بالثورة والثوار، كأنها تعاود تمثيل حالة نظام الإجرام لكن ضمن دائرة التبرير.
ولكنني شخصياً أجدهم أحد نتاجات النظام الكارثية التي أنتجت مواطناً لا يشعر بأن مؤسساته هي ملك له في المقام الأول، رغم أنه من يدفع من جيبه ومن مقدرات بلاده ثمنها، وكل استنزاف لها سيعود بالضرر عليه وعلى عملية التنمية اللاحقة لسقوط النظام.
خلال حكم النظام لم تكن المواطنة تعني شيئاً ذا قيمة، فالعلاقة السائدة بينه وبين المواطنين تقوم أصلاً على الإخضاع والخوف، وهي حالة غير دائمة مهما طالت زمنياً، وينتج عنها مواطن يعتبر هدر أو سرقة المال العام انتقاماً من نظام يسرق ويفسد بدون حساب، وهو (يلحس) لحسة من بحر لا ينضب من خيرات البلاد.
أسوأ ما في الأمر هي الصورة النمطية للثوار التي تحسب خطئاً أن النظام يمتلك مؤسسات الدولة وهنا تحدث الفاجعة والطامة الكبرى فيكون الاعتداء على مؤسسات الدولة واستباحتها هو انتقام من نظام مجرم وسفاح وفاسد، بينما في واقع الأمر أن المعتدي هنا يعتدي على شركائه في الوطن وعلى حقه في مؤسسات الدولة.
أصبت بحالة من الإعياء والارتجاف عندما زرت قبر والدتي الراحلة، وهو المكان الذي يشعرني بحالة من الراحة في هذا العالم المليء بالاضطراب، خصوصاً عندما شاهدت الشجرتين التي تتوسد إحداهما رأسها والأخرى التي تحت قدميها منزوعتان، إحداهما من الجذع، بطريقة اعتباطية مؤلمة، والثانية مقطوعة الأطراف بطريقة جائرة.
كانت الشجرتان تشكلان مظلة لي وللزوار من البشر والطيور، ولطالما شاهدت كلباً أو قطة تستأنس بظليهما، شعرت بالغضب وبالحزن ولكنني حينما أدرت وجهي وشاهدت القبور الأخرى وقد تكشفت الأكفان فيها جراء سقوط قذائف النظام عليها هاتكة سترها، تراءى لي صوتها الحنون الوادع يقول لي: لا تحزن بني ستعيدون زراعة الأشجار وستعيدون بناء هذه الديار بإذن الله الواحد القهار.
عبد الكريم أنيس