الياس خوري – القدس العربي
أمسكتُ سماعة الهاتف، طلبتُ الرقم، وقبل أن يرنّ على الطرف الآخر أقفلتُ الخط. لم أعد أملك كلاماً كي أحتفي بالعيد، رغم أني، كجميع الناس، أبحث عن لحظة فرح وتواصل، شعرتُ أن عليّ أن أنسى أين أنا وكيف أحيا وسط خرائب البلاد وأطلال الروح، كي أستطيع أن أهنئ الأصدقاء بالعيد.
هذه هي مفارقة زمننا العربي، عليك أن تنسى حاضرك وأن تصنع لنفسك وهماً يومياً، وأن تمرّ بك الأحداث وكأنها لا تمرّ عندك أو فيك، كي تستطيع متابعة حياتك بشكل طبيعي.
أقول طبيعي وأنا لا أفقه معنى هذه الكلمة. فنحن ابناء الحرب الأهلية اللبنانية ما إن اقتربنا مما يطلق عليه الناس اسم الحياة الطبيعية حتى انفجر كل شيء من حولنا، فصارت الحرب والنكبات والكوارث هي الطبيعي، الذي علينا أن نعيشه وننساه.
أنا لست ضد النسيان، فالنسيان هو شرط الحياة وثمنها. ننسى الماضي كي نعيش الحاضر. فلو لم يكن في مقدورنا أن ننسى مآسينا الشخصية والعامة، لفقدنا الرغبة في الحياة.
أكثر من ذلك، فنحن ننسى كي نتذكر. ننسى الأشياء والأحداث ثم نستعيدها في ذاكرة تعرف كيف تنتقي ما تبقى من الحياة من ركام الحياة، فتتحول الذكريات إلى كلمات ومشاهد تمر أمامنا بعدما فقدت الكثير من شحنتها العاطفية، حتى ذاكرة الألم تتحول إلى أطياف تتعالى على الألم نفسه.
مشكلتنا اليوم هي مع الحاضر وليس مع الذاكرة. أستطيع أن أتخيل مؤرخاً أو روائياً يأتي بعد خمسين سنة ويصف كيف تحولت حياتنا إلى حطام، يلعب مع حاضرنا لعبة التذكر، فيصوغ نصوصاً تشيب من هولها الكلمات، ويصنع نصباً لهذا الاستبداد الوحشي الذي ضربنا جاعلاً من حياتنا جحيماً.
أعود إلى الحكاية التي أحاول أن أرويها، لكن المشكلة أن لا وجود لحكاية. عندما يعجز الحاضر عن التحوّل إلى حكاية تتجدد، فإن الحياة تصير ثقيلة وغير قابلة للعيش. هذه هي مشكلة الحاضر الذي نريد أن ننساه كي نعيش، فهو ممتلئ بنفسه وبقصة واحدة يكررها إلى ما لا نهاية. قصة تتعدد اشكالها لكنها لا تروي سوى عن الموت. والموت يتكرر. رهبة الموت وعظمته انه حادث فريد ومفاجئ وصاعق. لكنه فقد فرادته وصار رتيباً. رتابة الموت هي اللحظة التي ينتفي فيها المعنى، فحين يصير الموتى مجرد أرقام، وحين يصير النذل شريفاً والشريف نذلاً، وحين لا يعود في استطاعتنا ان نحترم شهادة الشهداء لا نعود شهوداً، بل ندخل في عتمة الهذيان، حيث الكلام هو مجرد هلوسة لفظية.
كي نعيش في الحاضر ونحتمل هذا الاستبداد الذي يتناسل، ونعتاد على هدير الطائرات الروسية في السماء ومعها البراميل والأسلحة الكيماوية، علينا أن ننسى من نحن واين نحن، ونستسلم للتيه الذي يشبه مفعول المخدرات. نتخدر بلا مخدرات ونبحث عن افيون النسيان. وحده الأفيون ومشتقاته الطبية يسمح لنا بالتعالي عن الحاضر وألمه والانفصال عنهما، يبقى الألم لكنه ينفصل عن مصدره، ويبتعد بحيث يصير شبيها بالذاكرة.
نسيان حاضرنا هو أفيوننا اليومي، نتنفسه في كل صباح ونخترع حياة يومية تشبه الحياة، وننسى القاتل والقتيل والضحية والجلاد.
رويت أنني رفعت سماعة الهاتف كي أحكي مع صديق سوري وأهنئه بعيدي الميلاد ورأس السنة. كانت حمّى العيد تحيط بي، أستعد للاحتفال، وأمني النفس بلحظات مسروقة من الكآبة. لكنني حين وصلت إلى صديقي السوري شعرت بالخجل. فجأة شعرت بالعجز عن متابعة الانغماس في لعبة العيد، وتذكرت أنني صرت سورياً يوم تماهيت مع صورة حمزة الخطيب الممزقة بالتعذيب. لا أدري كيف استطيع أن أنسى أننا كلنا سوريون أو يجب أن نكون كذلك. فالألم السوري يعشش داخل جلودنا، ومأساة هذا الشعب الذي كانت ثورته ضحية الغدر والعجز، هي مأساة كل انسان يعتقد أنه لا يزال يحمل في داخله معنى الشعور الانساني.
نعم نسيت أنني صرت سورياً، وحكاية هذه الصيرورة لم تكن سوى احد أشكال دفاعي عن انسانيتي، نعم أيها الناس، كلنا نسينا سواء كنا سوريين أم لم نكن، نسينا الحاضر كي نعيش في الحاضر. تأملوا معي هذه العبارة الغرائبية، ننسى كي نعيش، يا له من تعبير وحشي يلائم هذا الزمن الوحشي.
لكننا بشر، والبشر مفطورون على النسيان، هذا هو طريق خلاصنا الفردي في هذا الزمن. نعيش «حريتنا» رغم أن عدد المفقودين صار بالألوف، نناقش ونتناسى رزان زيتونة وسميرة الخليل، نحكي ونحن لا نعلم مصير الأب باولو في زنازين «داعش»، نحكي عن الحرب السورية ونشيح وجوهنا عن أطفال الغوطة النائمين في عين الموت.
نعيّد والوف اللاجئين في العراء، ونزين بيروت بالأضواء، كي لا نرى أن المدينة تنزلق في موتها إلى قعر الموت.
خلال الحرب الأهلية اللبنانية كنا نعتقد ان اجتراح الحياة اليومية من قلب الموت معجزة، بل هو بطولتنا التي بقيت بعدما تمخضت الحرب عن وحشها الذي يتناسل. لكنني اليوم بدأت أشعر بعبثية معجزتنا الصغيرة تلك.
انتهى زمن المعجزات، وانتهى مفعول أفيون النسيان وكل المخدرات المصاحبة له، الأسى والألم يحاصراننا ونحن نقف في هذا الواقع الذي وقع متمسكين بكلمتي الحرية والعدالة إلى النهاية أو إلى نهايتنا.