وصل حافظ الأسد لوزارة الدفاع حيث استطاع وبحكم مركزة من السيطرة على جزء كبير من الضباط وربطهم بعلاقات معه شخصيا ليكون ما يمكن أن يسمى (لوبي) ومركز قوة يستطيع من خلاله التأثير على القرار في دمشق وبدء ظهور التوتر بينه وبين صلاح جديد ….
بيد أن المواجهة العلنية لم تحدث. فقد ازداد وضع النزاع بعد الهزيمة العسكرية العربية في يونيو (حزيران) 1967، ويرجع ذلك جزئياً للاختلافات في الرأي حول السياسات العسكرية والخارجية والاقتصادية الاجتماعية التي كان لا بد من إتباعها حينذاك.
وقد كان الجدل الأيديولوجي بين أهم الكتل والجماعات البعثية عادة ما يتركز حول مسألة إعطاء الأولوية للسياسة الاشتراكية الموجهة داخلياً أو لسياسة عربية قومية موجهة خارجياً بصورة أكبر بهدف التعاون بين العرب والوحدة بينهم في صالح المواجهة مع إسرائيل.
وكانت المشكلة الرئيسية هي العثور على أنسب الطرق للربط بين هذه السياسات الاشتراكية والقومية العربية بغية استخلاص النتائج التي يمكن أن تعتبر على المدى الطويل الأمثل من وجهة النظر البعثية.
وقد باتت الخلافات في الرأي بين جديد والأسد واضحة جلية في المؤتمرات القطرية والقومية التي عقدت بدمشق في سبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول) 1968. حيث ظهر اتجاهان واضحان، أيد أحدهما إعطاء الأولوية القصوى لما سمي بالتحويل الاشتراكي للمجتمع السوري.
وكان يسوده المدنيون كأعضاء بارزين، بمن فيهم صلاح جديد وعبد الكريم الجندي وإبراهيم ماخوس وزير الخارجية العلوي ويوسف زعين رئيس الوزراء.
وهذه الجماعة ذات الميول الاشتراكية رفضت علانية فكرة التعاون السياسي أو العسكري من الأنظمة التي وسمتها بالرجعية أو اليمينية أو بكونها موالية للغرب كالأردن أو لبنان أو العراق حتى وإن كان ذلك على حساب الكفاح ضد إسرائيل.
ولم يكن لدى هذه الجماعة اعتراض على زيادة الاعتماد على الاتحاد السوفييتي والدول الشيوعية الأخرى من الكتلة الاشتراكية، ما دام هذا لصالح التحويل الاشتراكي أما الاتجاه الثاني فقد أبدى ميلاً قومياً عربياً قوياً، أي تقوية الإمكانيات العسكرية العربية حتى ولو أحدث ذلك تأثيرات سلبية مؤقتة على التحويل الاشتراكي لسوريا، وقد تم تأييد سياسة التعاون والتنسيق العسكري والسياسي مع الدول العربية مثل الأردن والعراق ومصر والسعودية، دون لاهتمام بألوانها السياسية، وقد عبر معظم المندوبين العسكريين عن هذا الاتجاه القومي في المؤتمرات ومن أبرزهم وزير الدفاع حافظ الأسد ورئيس أركان الجيش السوري مصطفى طلاس 1966.
وقد فاز جديد وأنصاره بأغلبية ساحقة خلال المؤتمر وتمكنوا من جعل أفكارهم السياسية مقبولة ومعتمدة كمقررات رسمية لسياسة الحزب.
ولم يقبل الأسد نتائج مؤتمرات الحزب ورفض حضور اجتماعات أخرى للقيادة القطرية أو الاجتماعات المشتركة للقيادة القطرية السورية والقيادة القومية وبالرغم من انتخابه في القيادة القطرية، إلا أنه في الواقع استقال من تلك المؤسسة وقد قرر إحكام سيطرته على القوات المسلحة عن طريق فصل الجهاز العسكري للحزب عن قيادة الحزب المدنية، كما أصدر أوامر بمنع أعضاء القيادة القطرية أو مسئولي الحزب المدنيين الآخرين من زيارة أقسام تنظيم الحزب العسكري أو القيام باتصالات مباشرة مع قطاع الحزب العسكري.
وقد تم منع ضباط الجيش بدورهم من إجراء أية اتصالات مباشرة مع سياسيي الحزب المدنيين، إلا عن طريق القنوات الرسمية لقيادة تنظيم الحزب العسكري. وإضافة إلى ذلك قامت المخابرات العسكرية بحظر العلاقات العادية بين أقسام الحزب المدنية والعسكرية عن طريق فتح مراسلات الحزب وإعاقة التوزيع العادي لنشراته الصادرة عن القيادة القطرية السورية والموجّهة لجهاز الحزب.
وعقب مؤتمرات الحزب المنعقدة في أيلول و تشرين الأول 1968نقل بعض أنصار جديد العسكريين إلى مناصب أقل حساسية في القوات المسلحة، دون سابق تشاور مع المكتب العسكري الذي يسيطر عليه أنصار جديد والذي كان في الظروف المعتادة هو صاحب اتخاذ القرارات بشأن التنقلات العسكرية.
إن الامتياز الممنوح لقيادة الجيش لإجراء تنقلات بين مسئولي الجيش الذين هم فوق رتبة معينة قد جرى وضعه رسمياً أثناء الاجتماعات المشتركة للقيادتين: القطرية السورية والقومية، فعلى سبيل المثال تقرر أن يكون نقل قادة ألوية الجيش ضمن اختصاص الاجتماع المشترك ورغم ذلك استمر الأسد في خططه وأعفى كما ذكر المقدم عزت جديد – أحد أبرز أنصار صلاح جديد العسكريين- من قيادة اللواء السبعين، الذي كان له أهميته السياسية والإستراتيجية .
وبينما نجح الأسد في فرض سيطرته على معظم القوات المسلحة السورية، فقد أحكم جديد قبضته على جهاز الحزب المدني بشغل أهم مراكز الحزب المدنية بمؤيديه، وهكذا تم خلق ما يسمى بـ “ازدواجية السلطة”..مؤسستي السلطة الرئيسيتين قد تم السيطرة عليهم وهما القوات المسلحة و جهاز حزب البعث المدني ..
تم التوضيح سابقاً أنه منذ الانفصال عن الجمهورية العربية المتحدة في 1961 لعبت الولاءات الطائفية والإقليمية والعشائرية دوراً هاماً في الصراع على السلطة في سوريا، وبالتالي يمكن استنتاج أن قوة الضباط العسكريين والسياسيين المدنيين على المستوى الوطني قد اعتمدت بشكل كبير على النفوذ الذي استطاعوا فرضه على المستويات الإقليمية والطائفية أو العشائرية ليتسنى إحراز النجاح في السياسات الوطنية لابد للشخص أولاً أن يكون ناجحاً سياسياً بين أفراد منطقته أو طائفته الدينية أو عشيرته، وكثيراً ما تم التعبير عن الصراع على السلطة بين أشخاص من مناطق مختلفة أو طوائف دينية على شكل نزاع بين مناطق أو صراع بين طوائف كما تم التعبير عن الصراع على السلطة بين الأشخاص من نفس المنطقة أو الطائفة الدينية على شكل نزاع إقليمي داخلي أو نزاع طائفي داخلي. لذلك فإن الصراع على السلطة الذي اندلع في 1964 بين أبرز الضباط العلويين باللجنة العسكرية البعثية، أي محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد قد انعكس بوضوح في الشقاق الداخلي في فرع الحزب بمحافظة اللاذقية .
وقد ظهر شقاق مماثل في نفس الفرع في 1969 و 1970 عندما بلغ الصراع على السلطة ذروته بين الأسد وجديد، وكلاهما من اللاذقية، وذلك حين سعى كل منهما إلى بسط سلطته داخل حزب البعث على المستوى الوطني وتقوية قبضته على فرع الحزب ومؤسساته الأخرى بمسقط رأسه. وفي فبراير (شباط) 1969 عندما حاول أنصار جديد المسيطرون على فرع الحزب باللاذقية التخلص من تأثير الأسد عن طريق تصفية أبرز أنصاره فقد تلى ذلك إجراءات مضادة عنيفة، حيث أصدر حافظ الأسد أوامره باعتقال قيادة فرع الحزب باللاذقية واستبدال أعضائها بأنصاره الذين تم فصلهم من قبل .
كما فرضت الإقامة الجبرية على محافظ اللاذقية، وهو أيضاً في قيادة فرع الحزب المحلي، في 27 فبراير (شباط) 1969 ومُنع من دخول مكتبه أو المقر الرئيسي المحلي للحزب، وتم أيضاً الإغارة على مكاتب الحزب بطرطوس والشعب المحلية من قبل كتيبة المغاوير التي كانت مكلفة بحراسة المنشئات الحيوية في المحافظة، وذلك بقصد اعتقال أعضاء فرع قيادة الحزب، وفي طرطوس تم اعتقال عادل ناعسة أمين عام فرع اللاذقية وأحد أنصار جديد ، وقد أجبر على مغادرة المحافظة فوراً تحت حراسة عسكرية.
وقد أصدر الأسد تعليماته للمخابرات العسكرية بمختلف المحافظات بمنع أعضاء قيادة الحزب من الاتصال بالجهاز المدني لفروع الحزب، وذلك عن طريق تحذيرهم وتهديدهم بالاعتقال، وقد اتخذت أعنف الإجراءات في محافظتي اللاذقية وطرطوس وفي الواقع كانت هذه الإجراءات التي اتخذها الأسد في أواخر فبراير (شباط) 1969 أشبه ما تكون بانقلاب عسكري، ونتيجة لذلك فقدت القيادة القطرية السورية معظم قوتها، بغض النظر عن استمرارها رسمياً وتواجدها بمنصبها، وقد احتلت قوات الأسد مبنى إذاعة دمشق ومبنى إذاعة حلب، بالإضافة إلى مكاتب أكبر جريدتين سوريتين (تحت سيطرة البعث) وهما البعث والثورة، وتم فرض الرقابة العسكرية على نشرات الأخبار والتعليقات السياسية وجميع البرامج السياسية والثقافية والإعلامية
الصراع على السيطرة في حزب البعث والحركة التصحيحيّة
في آذار 1969….وبناء على طلب القيادة القطرية السورية تم انعقاد مؤتمر قطري استثنائي بدمشق، حيث بُذلت الجهود للتوصل إلى حل وسط بين الكتل التي تجمعت حول الأسد وتلك التي تجمعت حول جديد، بيد أنه لم يتم التوصل إلى مصالحة فعلية، ولتقوية مركزه خلال المؤتمر قامت قوات الأسد باحتلال مراكز إستراتيجية هامة في دمشق وضواحيها، وانتهى المؤتمر بمأزق واستمرت ازدواجية السلطة المذكورة آنفاً: احتفظ الأسد بسيطرته عل القوات المسلحة السورية بينما نجح جديد إلى حد كبير في إحكام قبضته على جهاز الحزب المدني السوري ..
وقبيل انعقاد المؤتمر القطري الاستثنائي بوقت قصير قام أنصار الأسد العسكريون بمحاصرة مقر قيادة العقيد عبد الكريم والذي كان يشغل منصب رئيس الأمن الوطني ورئيس إدارة المخابرات العامة و قاموا باعتقال عدد من مساعديه وأنصاره ومصادرة السيارات الخاصة بمكتبه, أما بالنسبة لعبد الكريم الجندي فقد انتحر ..
. وبموت الجندي انتهت تلك الفترة التي تم فيها إما تحييد أو تصفية أبرز أنصار جديد العسكريين غير العاديين، بمن فيهم أحمد سويداني وأحمد المير وفي عام 1969 وعام 1970 حاول جديد وأنصاره استعادة بعض نفوذهم المفقود بوضع منظمة الصاعقة التي تم تشكيلها في سوريا بعد حرب يونيو (حزيران) 1967 تحت الإشراف المباشر للقيادة القطرية السورية، بهدف تحويل المنظمة إلى أداة قوة بديلة يمكن استخدامها في وقت لاحق كثقل مقابل قوة الأسد العسكرية .
وفي سبتمبر (أيلول) 1970 اتخذ قادة سوريا السياسيون قراراً في صالح التدخل العسكري في الحرب الأهلية في الأردن إلى جانب المنظمات الفدائية الفلسطينية التي كانت تحارب في ذلك الوقت معركة خاسرة ضد الجيش النظامي الأردني تحت قيادة الملك حسين، وقد فشل هذا التدخل وأشعل فتيل مواجهة جديدة بين الأسد وجديد وكل من أنصارهما وحلفائهما.
وانعقد المؤتمر القومي الاستثنائي العاشر لحزب البعث بدمشق في أواخر أكتوبر (تشرين الأول) 1970 لمحاولة إيجاد حل لأزمة الحزب المتجددة بيد أنه قبيل ذلك بوقت قصير قام الأسد بنقل بعض أنصار جديد العسكريين استعداداً لأي حدث محتمل، وليكون قادراً على فرض إرادته على خصومه السياسيين إذا ما صار المؤتمر في غير صالحه وأثناء المؤتمر بات واضحاً أن الأسد وأهم مؤيد عسكري له مصطفى طلاس، كادا أن يكونا معزولين تماماً، بينما تمتع جديد وحلفاؤه بتأييد غالبية أعضاء المؤتمر، أما في القوات المسلحة فقد كانت العلاقات بين المعسكرين السياسيين الرئيسيين على عكس ذلك تماماً، وعندما أصدر معظم أعضاء المؤتمر في النهاية قراراً غير واقعي بإعفاء كل من وزير الدفاع الأسد، ورئيس الأركان طلاس من منصبيهما العسكريين وتكليفهما بمهام في الحزب، حسب ما تقرره قيادة الحزب فقد استطاع الاثنان اتخاذ إجراءات مضادة فعالة على وجه السرعة ..
وفي تتمة الجزء الثالث يكمل مسيرة حافظ في تغذية الطائفية وتقسيم الجيش والسلطة على أسس طائفية ضمن ما تسمى الحركة التصحيحية.