انقلاب 1970 و التقسيم الطائفي للجيش والسّلطة
نوفمبر (تشرين الثاني) 1970 أمر الأسد العسكريين باحتلال مكاتب القسم المدني للحزب ، بالإضافة إلى إلقاء القبض على أبرز قادة الحزب المدنيين، بمن فيهم صلاح جديد والرئيس نور الدين الأتاسي.
وقد فر الكثير من أعضاء المؤتمر إلى لبنان بغية تفادي الاعتقال، واستمروا في معارضة النظام السوري الجديد من هناك. ولم يحصل القسم المدني لحزب البعث تحت نظام حكم الأسد مرة أخرى على المركز القوي الذي حظي به لبعض الوقت خلال المدة السابقة.
وبعد 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 1970 اعتمد حافظ الأسد بصورة كبيرة على جماعة الضباط التابعة له في الاحتفاظ بالسلطة، وشملت هذه الجماعة عدداً من كبار الضباط الذين كان لهم ولأنصارهم مراكز إستراتيجية هامة في القوات المسلحة السورية.
هذا وقد تقلد الضباط التابعون لطوائف دينية غير علوية مهاماً عسكرية عليا من حيث الشكل، إلا أنهم لم يكونوا في وضع يشكل أي تهديد للرئيس العلوي الذي كان أتباعه الشخصيون قادرين على قمع أية بادرة عصيان.
فعلى سبيل المثال، نجد أن اللواء ناجي جميل، وهو سني من دير الزور وقد رأس السلاح الجوي السوري من نوفمبر (تشرين الثاني) 1970 حتى مارس (آذار) 1978، لم يكن في استطاعته استخدام السلاح الجوي بفاعلية في أي عصيان عسكري ضد الرئيس، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن أنصار حافظ الأسد حينذاك كانوا مسئولين عن القواعد الجوية الرئيسية..
و كذلك الأمر ينطبق على ضباط من أمثال مصطفى طلاس و اللواء يوسف شكور وهو مسيحي من الروم الأرثوذكس من حمص وضباطاً مثل طلاس وجميل وشكور استطاعوا فرض سيطرتهم، طالما كانوا خاضعين لسياسات الرئيس، أما في حالة حيدهم عن خط سيره فكان من السهل إزاحتهم جانباً من قبل أنصاره العسكريين، وخاصة بالنظر إلى حقيقة أنه لم يكن لهم أتباع شخصيون أقوياء داخل القوات المسلحة.
وفي الحقيقة فإن تعيين ضباط سنيين في مثل هذه المراكز العسكرية العليا، أمثال طلاس جميل، كان من الممكن أن يكون بغرض تهدئة السنيين وتبديد الانطباع بأن أهم المراكز مقصورة على العلويين دون غيرهم .
إن مخاطر التحدي لمركز الأسد في الأصل نبعت أساساً من داخل الطائفة العلوية ذاتها.
ويمكننا أن نستنتج من الاعتقالات والتسريحات التي حدثت أن الضباط العلويين والمدنيين العبثيين من اللاذقية كانوا متورطين..بصورة رئيسية في المؤامرات التي تم الكشف عنها في حزيران 71
فعلى سبيل المثال تم اعتقال عدد من أنصار جديد واتهموا بالتورط في نشاطات تخريبية ضد النظام وقد شمل ذلك العديد من ابرز أعضاء الحزب بقيادة فرع اللاذقية
وقد اغتيل اللواء العلوي محمد عمران في آذار 1972 في طرابلس بلبنان حيث كان يعيش في المنفى منذ 1967 وقد دلت الآثار التي خلفها القتلة على احتمال تورط جهاز المخابرات السورية و قد يكون عمران استمر في الاتصال ببعض أنصاره العسكريين في سوريا على أمل العودة للحياة السياسية في المستقبل..
وفي ديسمبر (كانون الأول) 1972 تم اعتقال المزيد من أنصار وحلفاء جديد العسكريين والمدنيين بتهمة التآمر ضد النظام.
ونظراً لأن معظم التحديات لنظامه نبعت من داخل الطائفة العلوية فإنه ليس من المدهش بمكان أن يضع الأسد ثقته المتزايدة في أشخاص مقربين إليه كأفراد عائلته أو قبيلته أو قريته وما يجاورها، وذلك لكي يؤمن مركزه حتى ضد من هم من نفس طائفته الدينية. لقد كان أخوته الخمسة جميعهم أعضاء عاملين بالحزب، وشغلوا مراكز بارزة في الجيش وفي مؤسسات الحزب أو في المؤسسات الحكومية، خاصة رفعت الأسد الذي تولى قيادة سرايا الدفاع بعد انقلاب نوفمبر (تشرين الثاني) 1970، وهي نخبة من وحدات الجيش ذات أهمية سياسية وإستراتيجية متمركزة حول دمشق، استطاع بها أن يحمي نظام أخيه الأكبر، وقد منح هو وعدد من الضباط الآخرين في مارس (آذار) 1974 أوسمة عسكرية .
وبعد انقلاب نوفمبر تشرين الثاني) 1970 على وجه الخصوص سرت شائعات داخل البلاد وخارجها أوحت بوجود منافسة بين الأخوين. وصلت أحياناً إلى حد القول بأن رفعت أسد كان مصدر تهديد لمركز أخيه.
لذلك عندما حاولت قيادة الجيش نقله ونقل وحداته بعيداً عن دمشق كما ذكر فقد أشيع أن رفعت ثار مراراً على ذلك. إلا أنه في إبريل (نيسان) 1975 في المؤتمر القطري السوري السادس لحزب البعث بدمشق تم انتخاب رفعت الأسد عضوا القيادة القطرية السورية إلى جانب أخيه حافظ.جميل الأسد عضوا في المؤتمر القومي الثاني عشر بعد أن كان قد تم انتخابه في مجلس الشعب
أما الأخوة الآخرون فهم إسماعيل ومحمد واحمد فقد تقلد الأخير منصبا في المجلس بمحافظة اللاذقية
وفي بيروت واصل أنصار جديد مهاجمة الأسد من خلال صفحات جريدة الراية التابعة لهم مع التركيز على مظاهر النظام الطائفية والعشائرية..
في مقالاتهم الموجهة ضد الأسد لم يذكر أنصار جديد البعثييون أن مراكز سلطتهم السابقة في سورية كانت أيضاً معتمدة على الكتل الطائفية والعشائرية والإقليمية في القوات المسلحة وفي الحزب.
وبعد انقلابه في نوفمبر (تشرين الثاني) 1970 حاول حافظ وضع حد لعزلة سوريا السياسية في العالم العربي والتي كانت قد زادت حدتها في الفترة منذ 23 فبراير (شباط) 1966.
فقد سعى إلى التقارب مع “دول المواجهة” – مصر والأردن- وكذلك مع الدول الأكثر محافظة مثل السعودية، وذلك بقصد بناء جبهة عسكرية وسياسية موحدة تهدف لتدعيم بقاءه أما جديد وحلفاؤه فقد سبق لهم أن رفضوا أي تعاون جاد مع مصر التي يحكمها الرئيس جمال عبد الناصر ومع الدول الأكثر محافظة، بحجة أن التقدميين هم وحدهم القادرون على كسب الصراع النهائي.
وقد أظهرت سياسة الأسد الجديدة المتمركزة على التعاون العربي نتائج في بما يسمى حرب تشرين ( التحريرية ) في 1973 والتي هي بالحقيقة تحريكية وليست تحريرية
فعلى أثرها خسرت سوريا المزيد من الأراضي والقرى في الجولان ..
بيد انه لم يبق سوى جماعة واحدة من الضباط العلويين، ألا وهي جماعة حافظ الأسد، الذي تقلد زمام السلطة العليا واستطاع أن يفرض إرادته على الآخر.
الحرب الأهليّة اللبنانيّة
وفي عام 1976 تم تقويض مركز حافظ الأسد بصورة خطيرة لأول مرة منذ قيام “حركتـه التصحيحية الانقلابية” في نوفمبر (تشرين الثاني) 1970، والسبب الرئيسي في ذلك يرجع إلى إصداره الأوامر للجيش السوري بالتدخل في الحرب الأهلية اللبنانية.
وقد دارت هذه الحرب التي أخذت في الاشتعال تارة والخمود تارة أخرى منذ إبريل نيسان فكانت الأحزاب اليمينية اللبنانية المتكونة أساساً من المسيحيين الموارنة وبين الأحزاب السياسية اليسارية التي كان معظم أتباعها من الطوائف الإسلامية المتعددة والتي دعمت عسكرياً في مرحلة لاحقة من قبل المنظمات الفدائية الفلسطينية.
وقد تدخل الأسد في المعارك اللبنانية بغية الوصول إلى وضع يمكن فيه استخدام الوسائل الدستورية والشرعية لتحقيق تسوية سلمية بين الأطراف المتنازعة ولفرض سيطرته المحتلة على لبنان.
بيد أن هذه المحاولة قد باءت بالفشل:
فقد تصاعدت حدة المعارك بشكل لم يكن متوقعاً على الإطلاق وتورط السوريون في البداية في مواجهة عسكرية عنيفة مع الفدائيين الفلسطينيين ومليشيات اليسار اللبنانية، وهم الحلفاء التقليديون لنظام البعث السوري .
وقد كان لهذا الجانب بالذات تأثير مزعج على وضع الأسد داخل البلاد، وارتفعت أصوات المعارضة القوية ضد تدخله في لبنان، وبعد اكتشاف وإحباط مؤامرات لإسقاط النظام القائم
ذكر أن هناك العديد من الاعتقالات قد تمت داخل القوات المسلحة والجهاز المدني لحزب البعث .
وعقب التدخل العسكري السوري في لبنان وقعت سلسلة من الاغتيالات السياسية والهجمات على قادة حزب البعث في سوريا ولم يكن واضحاً حينذاك ما إذا كانت تلك الأحداث وليدة معارضة سياسية داخلية ضد التدخل العسكري السوري في لبنان مثلاً، أو نتيجة المنافسة بين نظامي البعث الحاكمين في كل من بغداد وسوريا، أو ما إذا كان حتى المقصود بذلك هو إثارة “الانقسامات الطائفية”.
وعلى أية حال فمن الملاحظ أن معظم الذين تم اغتيالهم كانوا من العلويين .
واتهمت إذاعة دمشق ما أسمته بـ “الزمرة الفاشية العشائرية التكريتية” الحاكمة في بغداد بتدبير تلك الاغتيالات . .
أما المصادر المعارضة لسوريا فقد أعزت الجهود المبذولة للإطاحة بنظام الأسد، ليس فقط لدوافع سياسية، بل أيضاً للاستيلاء المزعوم ضد الهيمنة العلوية في سورية.
فعلى سبيل المثال، في 26 إبريل (نيسان) 1976 ادعت إذاعة القاهرة أن ما سمي بالانقلاب الفاشل الذي قام به الضباط السوريون في بداية ذلك العام يمكن نسبته بصورة كبير إلى ما أسمته بـ”التمرد الذي قام به ضباط الصف والجنود في حزب البعث ضد قيادة الحزب لفرضها سلطة الطائفة العلوية الدينية على البلاد .
وفي بث آخر في 5 يونيو (حزيران) 1976 وصفت إذاعة القاهرة نظام حافظ أسد في مصطلح دعائي بأنه “نظام البعث العلوي ” وفي مارس آذار ذهب أنور السادات والذي انتقد بشدة من الأسد على اثر زيارته لإسرائيل وبدء المفاوضات الى حد التصريح بان نظام البعث في سوريا هو أولا علوي وثانيا يعيثا و ثالثا سوريا..
محاولة فاشلة للحرب على الفساد في النظام
في أب من سنة ال77 ساهم تطور أخر لمجرى الأحداث في تدهور مركز الأسد الذي فقده نظامه اثر تدخله في لبنان أعلن الأسد تكوين لجنة للتحقيق في الكسب غير المشروع في جرائم الرشوة وبسط النفوذ والاختلاس.
ويبدو أن ما كان مقصوداً بهذه الحملة ضد الفساد هو تبديد السخط الشعبي ضد سبل معالجة الحكومة للسياسة الاقتصادية وضد الفساد المتفشي في البيروقراطية الحكومية والقطاع العام.
وحقيقة كانت الحملة محكوماً عليها بالإخفاق منذ البداية، حيث أن بعض الضباط العسكريين من ذوي المناصب العليا –وهم من الحاشية المباشرة لحافظ الأسد والذين كانوا يشكلون لب جماعته من الضباط– قد وجدوا مذنبين بالتورط في ممارسات الفساد.
وتصفية هؤلاء الضباط من الجيش أو اتخاذ إجراءات تأديبية صارمة ضدهم كان من الممكن أن يقوض مركز قوة جماعة الأسد بشكل مباشر، وبالتالي النظام ككل. لذلك، كان من المحبذ عدم التعرض بالإساءة لمراكز أبرز الضباط، ونتيجة لهذا، فقد تمت المخاطرة بمصداقية النظام في تدبير الحملة ضد الفساد.
وتعرض هيبته للضرر مرة أخرى. ويمكن أن نستنتج أن الفشل الذي منيت به الحملة ضد الفساد يعتبر مثالاً آخر للمأزق الذي وجد النظام البعثي السوري نفسه فيه مراراً وتكراراً منذ استيلائه على السلطة في عام 1963.
ويرجع ذلك لبنية لب نخبة القوى السياسية: أي الحزب السياسي أو إحدى جماعاته التي رغم إتباعها أيديولوجية معينة لإبعاد الولاءات الطائفية والإقليمية والعشائرية، إلا أنها وجدت نفسها مضطرة إلى حد ما للرجوع لتلك الولاءات التقليدية عندما تقلدت زمام السلطة، حتى لا تفقد القوة المطلوبة لتحقيق أيديولوجيتها