لابد من الحديث عن أن أحد فضائل الثورة السورية هو إعادة إحياء منظومة الأخلاق التي تدهورت فترة طويلة من الزمان عبر ترسيخ الإفساد الاجتماعي والمؤسساتي التي طغت على الدولة السورية حوالي عدة عقود من الزمان.
ولابد من القول أن الاستنصار لفئة الضعيف المكلوم، بوجه طغيان، دمر العباد والبلاد، بات أمراً لا يمكن انكاره، خصيصاً بعد انحياز الفئة الأكبر من المجتمع السوري للحالة الرمادية السلبية، التي لم توقف حالة الانهيار للمجتمع والدولة في سوريا، عبر تفعيل خيار الثبات والتظاهر ضد كل مظاهر القتل والتشريد، ووقفت متفرجة تتابع المشهد ينحدر باتجاه مستنقع الدماء، راضخة لمنطق الأقوى المسيطر، بطريقة جعلت منها شريكاً في سفك الدم السوري الوطني الحرام. وأن هذا المنطق الساذج والضعيف هو بذاته من جعل نافذة البلاد مفتوحة على مصراعيها، لكل فصائل المقاتلين، المخترقين مخابراتياً والصادقين، على حد سواء.
ولابد من الحديث عن ملاحظات باتت ظواهر ضمن فصائل من المجاهدين، وحتى لا نقع في عبثية التعامي عن حدوث الأخطاء، أو حتى التي باتت تقع ضمن تصنيفات جرائم، لا يمكن بحال من الأحوال السكوت عنها، لعلّ أحد الذين يتصفون بالصلاح والفلاح والرشاد يتداركها بدون حساسية وبدون افراط. سأضع بعض النقاط من الملاحظات التي لاحظتها خلال فترة من الزمان، هذه الملاحظات، ليست حقائق نهائية فهي قابلة للخطأ والتصويب.
- بداية، يتوجب علينا الحديث عن ضياع الفعالية باتجاه الهدف( اسقاط عصابة المجرم بشار) على منحى تثبيت النفوذ والسلطات وتطويع الأرض والمواطنين، لصالح الجهاديين، وما يخدم أنماط تفكيرهم، وهذا في حد ذاته تسفيه لكل جهد وبذل وتضحية يقوم بها بالتوازي شعب مضرج بالشهداء وبات يعج بالجرحى والمعتقلين.
- يلاحظ أيضاً الانقسامات داخل الفصيل الجهادي بسبب عدم وجود الرؤية أو مطابقتها للواقع : معلوم أن جزءاً من أعضاء تنظيم داعش كان جزءاً من منظومة جبهة النصرة التي وفد جزء منها من خارج البلاد. شعارات هذه الحركات الاسلامية السلفية الجهادية، على اختلاف خلفياتها الفكرية والحضرية، نادت بإقامة دولة خلافة اسلامية راشدة في المناطق التي تم تخليصها من عصابة الأسد، ووضعت من نفسها البديل الأساس للدولة السورية في مرحلة ظهور خروقات مسلكية من بعض عناصر الجيش الحر، فبدت المخلّص من طغيان واجرام الاسد وفي الوقت ذاته صاحب الرسالة الأخلاقية في ظل اهمال قادة الجيش الحر لمحاسبة الفئات الفاسدة فيه. لكن الخلافات البينية بين الفصائل الجهادية كانت على الولاية وحدود السلطة وبرزت بشكل أكبر في الخلفية الفكرية المتشددة التي استباحت تفكير وأرواح المواطنين، وهنا حصل فرز وصل لحد القطيعة واعلان الحرب، بين تنظيم النصرة الذي يتبع لتنظيم القاعدة وبين تنظيم داعش المتطرف صاحب المطامع في احلال دولة خلافة دينية بالإكراه.
- يلاحظ التحزب وراء أفكار مرجعيات مجهولة الهوية: انتهز العديد من الجهات غير المعروفة حالة الفوضى والتشتيت والفراغ التي عانت منها المناطق التي تخلصت من عصابة الأسد وأصبح هناك حالات من أنماط التشظي في الهوية والمرجعية وطغت على هذه المرحلة حالات استلاب تمثل في هجين غريب من أنماط اللباس غير التقليدي في كل المنطقة وهو ما بات يدعى باللباس الافغاني-ملابس داكنة أو فاتحة، ذات جلباب قصير- وهي تكاد تشبه الهوية الثقافية التي من مدلولاتها أن صاحبها ينتمي لفكر معين. مدلول هذا الاستلاب فراغ فكري أو جفاف ثقافي وحتماً ضياع بوصلة دينية لم تجعل من أنماط اللباس دليلاً على التقوى.
- تم تمييز العديد من حالات التدخل بالشؤون الداخلية للمناطق التي تتخلص من سيطرة النظام: لوحظ في حالات محددة أن المهام القتالية الدفاعية للعناصر استطالت حتى أصبح قادتها يتدخلون ببعض شؤون تسيير الحياة اليومية وتنظيمها ومن ذاك التدخل بالأرزاق ومؤخراً التفرد بأخذ قرارات مصيرية من مثيل تحديد قطع المياه أو الكهرباء على أساس أنها وسيلة قد توقف اجرام النظام!
- لوحظ الاعتماد على فئات عمرية صغيرة تحتاج الكثير من الحنكة والحكمة السياسية: توجد فئات عمرية شابة تبحث عن أي مستوعب فكري أو من يقوم بإعطائها دوراً بطولياً في ظل تهميش اجتماعي سابق له وهنا يحدث أن يفاعة الشباب يغلب عليها الانفعال ويغلب عليها الرضوخ لردات الفعل وهذا قد يتسبب بنتائج لا يحمد عقباها. قد تصل لمستوى الانفجار في حال لم يتم السيطرة بشكل ايجابي على نمط تفكير أولئك اليافعين، الذين لم يقدروا بعد معنى الحياة ومعنى البناء ومعنى الاسترسال في متابعة تأدية رسالة حضارية للاسلام.
- كثيراً ما كانت تتغير خطة العمل بشكل كامل، حسب القناعة الفكرية للقيادي: يكاد يكون الوضع في هذه الحالة معتمداً على بقاء أو استشهاد أفراد فترى أن أحدهم في غاية الانفتاح وفي غاية التحضر وفي غاية المرونة ويتحدث من منطق الفهم ويعلم عن مقاصد الشريعة وحين يفقد في معركة ما قد يخلفه شخص قد يجعل التفكير في الحالة الصومالية أمراً قد يقع في الحسبان.
- تم الاعتماد على مفهوم الاستشهاد دون التفكير بمنطق الاستخلاف في الأرض بهدف الاعمار والبناء: وهنا لابد من النظر أن المقاتلين، وخصيصاً أبناء الوطن، قادمين فقط بغرض الاستشهاد وهذا يعارض الحاجة للحفاظ على أرواحهم من جهة وعلى فكرة أن يشاركوا بتقديم تصور للحياة المستقبلية دون أن يكون فيها تعقيد أو تنميط فكري ديني تقليدي، لا يقدم فكراً يدفع البلاد باتجاه الازدهار وتفعيل سبل الحياة والاستفادة من كل ما فيها من حيثيات. يعقد هذه المهمة حمل عدة مهام تتجاوز المهام القتالية إلى تنظيم الشؤون المدينة وفق منظومة فكرية متأخرة تنظيمياً تتحدث عن الماضي حتى في المسميات وتوزيع المناصب والمهام.
- كان هناك من أوحى بالتفكير بمنطق المنتصر الذي يحتاج أن يقبض الثمن: هناك من يحاول الترويج أن الانتصار على عصابة الاسد يعني بالضرورة احلال فكره وأنماط تفكيره بل وحتى مذهبه ليكون بموقع المتصدر والمتسيد على خيارات شعب أراد التخلص من بطش جزار قاتل، خرب الديار وأدخل البلاد في دوامة الاستعباد، التفكير بهذا المنطق يستجلب فقط دكتاتوراً آخر لسدة رمي الأهداف من قبل الشعب الذي ما عاد قادراً على احتمال المزيد من الطغيان.
- الارتهان لفكر سياسي متدثر بستار ديني يتخطى حدود الوطن: ببساطة يمكن هنا الحديث عن جهات رهنت نفسها لمنظمات توصم دولياً بالإرهاب وهنا لا بد من الاشارة لتنظيم القاعدة الذي يحمل فكراً استئصالياً يحتاج الكثير من الوقوف وراءه وخصيصاً أنه مخترق بطريقة كبيرة من قبل كثير من الجهات على مستوى الأفراد والقيادات، يلاحظ سهولة الانخراط ضمن فصائل المجاهدين وخصيصاً عملاء النظام المدربين بشكل متقن عبر الالتزام ببعض الشكليات والأفكار والمناداة بشعارات محددة. ذه التنظيمات عموماً تتحدث عن معارك طويلة الأمد لإنهاك القوى الامبريالية! وهذا يستنزف أكبر قدر ممكن حتى من التفكير في بناء دولة تحلم بشيء من الحرية والرخاء، في المستقبل القريب.
- شهوة السلطة والحكم: لا يمكن اغفال أن شأن الحديث عن خيرات البلاد وتوزيعها والتحكم بها ليس بأمر لا يصيب لوثته حتى الصادقين المخلصين من المجاهدين وهنا لابد من الفصل بين الملائكية وبين الواقعية من حيث نتائج هذه الشهوة المتوافرة بين جميع الأطراف وعلى أي متصدر لهذا الشأن أن ينحى بنفسه عن الوقوع في هذا المستنقع الذي لن يجلب سوى المزيد من دائرة الدماء والغرق في مفردات الأنا والاستغراق في الحديث عن الاستحقاقات لقاء المنجزات.
في الختام يجب القول أن توافد المجاهدين من خارج البلاد لم يكن بتفويض من الثوار ولكنه كان رد فعل طبيعي ومنطقي حين استنصرت عصابة نظام الأسد بشيعتها من خارج البلاد، وفق منظمة طائفية بغيضة، على مستضعفين في الأراضي السورية ونكلت بهم وشردتهم ويتمت الأطفال ورملّت النساء وقتلت الشيوخ واعتدت على المدنيين. وليس من اللائق بحال عدم الاعتراف بغيرية هؤلاء وشجاعتهم على الاستبسال بالوقوف ضد كل هذه الآلة العسكرية المفتوحة المصادر والتمويل من روسيا وايران. ولكن علينا دوماً أن نتذكر كما قال أحدهم ” نحتاح (كحركات اسلامية) إلى تحرير الناس لا إلى حكمهم، فمجتمعاتنا محكومة أكثر من اللازم أصلاً” وعلينا أن نوصل رسالة مفادها أن الشعب السوري المتعب والمنهك والغارق في الجراح يحتاج من يتفهم أولياته وأن إعادة ترميم منظومته الفكرية والأخلاقية تستدعي القليل من الوقوف للنظر بخياراته قبل أن يحسمها شخص قدم اليه على نية أنه عمل يقصد به وجه الله.
اللهم ألهمنا أن نقف مع الحق دون أن نخلطه بالباطل!، من دعاء أحد المفكرين الأصدقاء.
عبد الكريم أنيس