و تسألني: و ماذا تعلم أنت عن الموت؟
فأجيبها: قد يموت المرء بضع مئاتٍ من المرات، رغم أنّه بالكاد يولد مرةً واحدة !
أؤمن أنّ الموت ليس سوى بداية جديدة، و أؤمن أكثر أنّ حياة الإنسان مقدّسة و إلّا لما جعل الله إزهاقها أعظم الذنوب بعد الشرك به، يستوي في ذلك من قتل نفساً كمن قتل الناس قاطبةً.
أؤمن أنّه يحاول باستمرار أن يعلّمنا كيف نعيش، لا كيف نموت، و لهذا يغار الموت و تستبدّ به شهوة الانتقام من حيواتنا..
و أطيب الموت ما أتى في المنام، إذ يكون المرء أصلاً شبه ميت و لا يستلزم الأمر أكثر من انقطاع خيط الروح الذي يربطها بالجسد الهادئ بسلام، و أشدّ من ذلك بقليل موت الفجاءة، و يكون لذيذاً في لحظة تعبّد أو عشقٍ أو تأمّل، لا يكلّف المرة أكثر من لحظة انقباض قبل أن تعود الروح إلى بارئها.
ما عدا ذلك فليس من عذابٍ في الدنيا أشدّ من سكرات الموت، فالروح عندما دخلت أجسادنا لمّا كنّا في عالم البرزخ قبل قدومنا إلى الدنيا، أشبه ما تكون بهيكلٍ من قطع الزجاج يخترقنا، و نولد و نحن لا نزال نصرخ من وجعها و من وجع كسو اللحم عليها، حتى إذا ما حانت لحظة عودتها كان انتزاعها من كل تلك الطبقات أضعاف ما استغرق دخولها، و نسمّي ذلك آخر أمراضنا و مآل شيخوختنا..
دعني أحدّثك عن موت السوريّين في الألف يومٍ الأخيرة، إذ تفتّقت قريحة هادم اللّذات و مفرّق الجماعات على أساليب لم تمرّ من قبل بالبال و لا في الخيال.
فجرّب السوريّون الموت قنصاً بالرصاص، و تفجيراً بالقذائف أو الصواريخ، و هي لعمري على هولها أهون ميتاتهم و أسرعها! و طالهم الموت خنقاً أو دهساً تحت الركام، أو جزّت أعناقهم سكّين اللحّام، و ألم هذه الميتة على شدّته يزول في ثوانٍ أو دقائق؛ أو أزهقت أرواحهم تحت التعذيب و هنا يذهب الوجع بعقلهم و إدراكهم في نهاية المطاف فلا يشعرون بوطأة الموت المتوحّش، و مثل ذلك يحصل لهم بالموت جوعاً إذ يفترسهم تعب خواء البدن..
و الفراق موتٌ مؤقت، و لا نكره الموت حبّاً بتعس الحياة بل لألم البعد عمّن نحبّ.
و كثيرون منهم جرّبوا في صمتٍ محزنٍ جليل كيف يكون الموت قهراً في غربة المنفى، و إنّي لأقسم أنّ عذاب أرواحهم يستمر بعد الموت لفجيعتها ألّا يضمّ تراب البلد كفن الجسد.
و يحدّثونك أيضاً عن موتهم غرقاً، و أكثر ما يؤلم في هذه الميتة لحظات الرعب التي تسبقها و تيقّن المقبل على الموت منه، عندما تبدأ رئتاه بالامتلاء بالماء و يغور الهواء بينما يجدّ الذعر في طلبه.
أشبه الميتات بها الموت حرقاً و الموت تسمّماً بالمواد الكيميائية و سواها، و لكنّ وجع الحرق و السمّ أعمق و أقوى و يدوم لوقتٍ أطول قبل أن يزهق صاحب النصيب التعس..
لكنّي سأخبرك عن إحدى الميتات التي عشتها، تلك الميتة التي يختبرونها اليوم: الموت تجمّداً. يزحف البرد على تعب الجسد ببطءٍ يليق بحلزون المطر، يخترق كل مقاومتك، يتسرّب إلى دمك، ينخر عظامك، يتلاعب بنبض فؤادك ساخراً، تحاول أن تنتفض و ترتجف لينهض عنك دون فائدة، يجثم عليك و يحدّق في عينيك فيملأهما، ثم يبدأ بسحب روحك على مهلٍ لوقتٍ قد يتجاوز الساعات، يبقى دماغك خلالها يعمل بالكامل، و يشعر بكلّ ما يحصل: كيف يأكل النمل أصابعك و أطراف أذنيك و أنفك، كيف تتحول أطرافك التي يحرقها الجليد إلى قطعٍ من الحطب الثقيل تتمنى لو تحمل فأساً لتبعدها عنك كما لو كانت لعنة، ثم عجزٌ تام، و في لحظةٍ ما تبدأ بالانفصال عمّا تبقّى من جثتك و ترقب موتها غير المكتمل، و نضالٌ بلا معنى كي لا تهرب أنفاسك الأخيرة منك بينما يلاعبها الموت بصقيع أنفاسه، يتباطأ قلبك بالتدريج و تصبح تقلصاته مؤلمة بقسوة و كل نبضة كأنّها تشنّج ربلة ساقك على عمق ألف فرسخ في محيطٍ مظلم .. و عندما يتوقّف أخيراً، يبقى عقلك هو المغادر الأخير، يحاول البكاء و الرثاء، و حتى تلك لا ينالها..
يقولون: إنّ الله يقهرنا بالموت. ليس في رؤوسهم سوى صورة إلهٍ يشبههم، يتلذذ بساديّةٍ مريعة بقدرته على ممارسة ما يشاء بلا حساب، تماماً كأيّ طاغية!
الربّ الذي أحبّه يحبّني أضعافاً تتناسب مع فارق القدرة بيننا، و رغم ذلك اختار ببساطة أن يترك عرشه الفارغ لملائكته و يتربّع في قلبي.
الله الذي أهوى يؤلمه أن يغادر قلوب الناس لأنه يعلم أن أبشع الميتات خلوّ القلوب منه.
عندما يرضى الله عن فوضى الموت و يتركه يمارس جنونه و عبثيته على هواه، يكون قد نفض يديه منّا. يوماً سأبكي بين يديه و سيجيبني من قبل أن أسأله لمَ فعل ذلك؟ و حتى تلك اللحظة، تبقى هناك ميتة وحيدة جديرة أن نجابه بها قدرنا، ميتةٌ لا تبحث عن موت الآخرين و تسمّي نفسها جهاداً و شهادة، ميتةٌ لا تبحث عن باطل تقتله قبل تحققّها، فأعمى من لا يدرك أنّ الحق لم يعد في هذه الأرض و ما من شيءٍ هنا سوى الباطل يجمعنا جميعاً على قلوبٍ شتّى. ميتةٌ شجاعة لا تنتظر أجلها، بل تحدّد طقوسها و تعلي إرادتها فوق إرادة الموت. ميتةٌ اسمها الانتحار.
“ألوهيم !! ألوهيم ! لمَ شبقتني!؟”
ليون الأفريقي