زيتون – عبد الكريم أنيس
قد يبدو السؤال المطروح غير مناسب للطرح في زمن الثورة السورية والابتلاءات والمحن الشديدة التي ابتلي بها المجتمع السوري، فمع تزايد شدة الفواجع والأحزان ومراقبة قوافل الشباب التي تذهب ضحايا القصف والاعتداءات، التي تفننت عصابة الأسد بإذاقتها للمجتمع السوري جراء استخدام كافة أنواع الأسلحة الثقيلة بل والمحرمة دولياً، وتسليطها على المدنيين الذين خرجت مناطقهم من سيطرة نفوذها، يبدو مثل هذا السؤال في غير وقته.
كثيرون يعتبرون أن للزواج خصوصية، ينبغي أن تتجه الأوضاع المحيطة نحو الاستقرار، حتى يتم مثل هذا المشروع الحيوي والهام، وليحقق الديمومة المطلوبة له كمشروع مستمر لتأسيس خلية الأسرة كلبنة أولى لتدعيم المجتمع، لما كان يسمى حتى عهد قريب “فرحة العمر” في حياة الشباب لتتواصل رسالة الحياة بالاستمرار.
طالما ارتبط الزواج باستقرار العمل وديمومته وتوفير السكن اللائق كمعايير لأمن اقتصادي للمستقبل في سوريا، كما في المحيط العربي، يطلب الزواج باكراً كوقاء سريع، فلا يقع الشباب بمطبات الانجراف بمهاوي الانحراف، ففي البيئات العربية المحافظة والتي تعتبر أي اخلال أخلاقي من شبابها، أو شاباتها خصيصاً، أمراً مشيناً، يمس بشرف العائلة وسمعتها، يكون الاحتياط بالتبكير بتزويج الفتاة والشاب أمراً مقدّراً ومدبراً بطريقة تقليدية في المجتمع السوري عموماً.
مع أن هناك الكثير من المؤشرات التي تجعل الزواج في الحالة الراهنة أمراً بات تحقيقه أقل صعوبة من الأوضاع السابقة في المجتمع السوري والتي أوصلت المجتمع لحالة من النفور لكثرة المغالاة والتكلف والابتذال في تكاليف ومتطلبات الأعراس، فإن فئة كبيرة من الشباب لا تزال تجد الواقع مختلفاً عن التسهيلات المخففة التي يبديها بعض أولياء الأمور لقاء تزويج أولادهم(بنيناً وبناتاً) ويقولون أن التفاصيل هي الطامة الكبرى، وليست مجرد كلام يطلق بدون حساب، من قبيل أن الأهل يقبلون من يتقدم لابنتهم من ذوي الأخلاق، ولكن ذوي الأخلاق هذا، ينبغي أن يكون ممن لديهم كل السمات المطلوبة، ليكون هذا الطالب للقرب مقبولا من أي عائلة كانت بدون تحفظ، وبدون أي “تسهيلات” فقدت كل مضامينها، يختصرها أحد الشباب الذين هم في سن يمكنهم من الزواج بالقول:
“يقولون لك أنهم لا يريدون سوى ابن الحلال وعندما يتقدم هذا الابن الحلال يطلبون منه كل شيء، هذا المجتمع بغالبيته لازال يقول ويصرح ما لا يفعل على أرض الواقع فعلا”
تستغرب وبشدة إحدى السيدات أنه ونظراً للظروف الراهنة ولدى طلبها يد فتاة لابنها الشاب الجامعي وعند مناقشة التفاصيل تتكبّر عليها حماة ابنها المستقبلية أنهم من النازحين الذين قدموا من منطقة ثرية وأن عليهم أن يراعوا “برستيجهم” السابق وأنهم لا يستطيعون اتمام الفكرة مالم يتم منح ما وهب لابنتهم الأولى التي تزوجت قبل فترة الثورة لابنتهم الثانية، وأن الظروف الحالية لا تعني أن “نكسر” بخاطر الأخت الثانية، وبرّمت شفتيها، لتذكرها أن الدنيا لا تزال” مقامات” كناية عن تذكيرها بوضعها الاجتماعي السابق، وأن كون العائلتين باتتا حالياً من النازحين لا يعني أن تسقط الشكليات الاجتماعية جملة وتفصيلاً!!
منذ أمد طويل، ارتبط الزواج بالمقدرة الجسدية لكلا الطرفين، الزوج بشكل أوسع والزوجة بشكل أقل، فلا تزال هناك نسب مرتفعة من بين الزوجات التي تقوم على تزويج الفتاة قبل بلوغها سن الثامنة عشرة، ولوحظ ازدياد هذه الحالة للتقليل من الأعباء المادية التي باتت تشكل حملا ثقيلا مع التردي الفظيع للأوضاع المادية للمواطنين، حتى الميسورين منهم، جراء توقف الأعمال بغالبية أشكالها وبالتالي اعتماد المواطنين على السلل الغذائية الممنوحة لهم من قبل الجمعيات الخيرية وطبعاً كلما قلّ عدد الأفراد تزداد الحصة لكل شخص.
فتح موجات التهجير التي طالت السوريين في عديد من المدن السورية باب الحرية الجنسية والمساكنة، ففي ظل انفراط القيود الاقتصادية، التي كانت قيداً يمتلكه الأهل، وبعد أن توفرت حيزات للعمل في دول تقع خارج الأراض السورية، تمنح لكثير من هؤلاء فرص عمل، ومقدرة على العيش، بعيداً عن سلطة الأهل وجبرياتهم التعسفية باختيار مستقبل أطفالهم الذين كبروا، وبالتالي أصبح موضوع الزواج التقليدي مسرحاً ليكسر عبره بعض الشباب مفاهيماً تنزل بمرتبة القداسة، وكان هؤلاء يحاولون وبجهل غالباً الثورة على المجتمع عبر انكار مشروعية مثل هذا الرباط المقدس، وجعله شأناً ثانوياً، وأصبح هناك أحاديث عن تجارب سابقة للعلاقة الزوجية، بقصد تثبيتها في مرحلة أخرى، أو حتى يلتقي طرفان يعتقدان أنهما قادران وبمليء ارادتهما للبقاء معاً برباط شرعي يكفل اعترافاً اجتماعياً شرعياً بهما وبأطفالهما.
البعض اعتبر سقوط النظام السوري وانتصار الثورة بداية لمرحلة جديدة يريد معها فجراً جديداً لحياته وفرحاً سيتوج حياته بالإصلاح الاجتماعي الذي طال أمد انتظاره، سيحتفل فيه بوأد الجهل ويستعيد حالة من الوعي المغيّب، واعتبر الثورة خطوة صغيرة ستقوم بإحداث موجة كبيرة من الوعي ضمن مجتمع متهالك أضرت به كثرة التقاليد والابتعاد عن المقاصد الفقهية للأحكام الشرعية وتطويعها وفق مبدأ السائد في المجتمع لأنها تعاكس تماماً الوصايا الرسولية، فمن المعروف أن مهر العروس والمغالاة فيه يعطل القاعدة الشرعية بالتيسير بالزواج، حيث أن القاعدة العامة تقول أن أكثر الزوجات بركة أكثرهن تيسيراً.
وبرز كثير من الحالات لدى الثوار، المقتنعين حتماً بالثورة قولاً وفعلاً، وظهرت الكثير من الثائرات الحرائر لتكنّ قدوة حسنة بالتيسير والتبشير بعهد اجتماعي جديد يكسر التقاليد، يقول “أحمد” وهو من أوائل الشباب الثائرين في مدينته أن زميلته بالجامعة والتي قبلت به رغم أنه لم يتخرج من كليته بعد، ويعاني من صعوبة ايجاد عمل” قالت لي أنها تريد أن أهب صداقها بالتقسيط لرعاية أيتام حتى يبلغوا سن الرشد فتعلقت بها أكثر وعلمت أنها ستكون أماً فاضلة لأطفالي ما دامت تضع نصب عينيها أطفال الآخرين الذين قضوا شهداء أو ضحايا ما يحدث في سوريا”.
أخريات كنّ مجرد متصيدات للحظ الذي اعتقدنه وافراً في حالة الفوضى التي أعقبت طرد عصابة الأسد من بعض المدن والمناطق فيقول “خالد” عن تجربته “ادعت أنها تريد فقط الزواج بي لأنها وجدتني فارس أحلامها كوني انتسبت للجيش الحر ودافعت ضد الظلم ولكن يبدو أن عائلتها تعتقد أنني قد أصبت ثراء ولهذا كانت طلباتهم كأنني أمتلك مخفراً لحسابي الخاص”
على العكس تماماً من الحالة السابقة رفض الأهل تزويج ابنتهم بعد أن علموا أن المتقدم إليهم من حاملي السلاح، فقد غلب لديهم الخوف على مستقبل الفتاة واعتبروا أن اقترانها بهذا الشاب يعني إن آجلاً أو عاجلاً ستصبح ابنتهم أرملة مع تغير المعطيات في الأرض حتى لو كانت المرحلة الراهنة مرحلة مؤقتة من التقدم على قوات الأسد، فقد بات معروفاً أن عصابة الأسد باتت تستدعي كل مرتزقة العالم والقوى العالمية لمساندتها وباتت الانتصارات التي حققها الجيش الحر مجرد انتصارات تتقلب نتائج ديمومتها تبعاً لقوة التسليح التي يحصل عليه خارجياً.
رفضت السيدة “أم محمد” الفكرة من أساسها” لا يمكن أن أقبل أن تكون ابنتي أرملة حتى قبل أن تبدأ حياتها.. مستحيل ولا يوجد لديّ تفسير”
تقول إحدى السيدات التي تقدم لخطبة ابنتها أحد الشبان المنتسبين للجيش الحر وهي من الذين يناصرون الثورة” لا يمكن أن ازوج ابنتي البكر لهذا الشاب، على الرغم من ايماني أنه رفع السلاح مكرهاً ليدافع عنا، لأنني لا أستطيع أن أواجه الحزن الذي سيعتري فتاتي حين يجلبون عريسها شهيداً، قد أكون متناقضة من حيث معرفتي أن هذا الشاب يدافع بدمه عنا، ولكنني لست قوية بما فيه الكفاية حتى أكون على قدر المسؤولية التي تستطيع تحمل ابتلاء أن تكون ابنتي الفتاة الشابة أرملة في وقت ربما يكون قصيراً”
بالمقابل لدى أمهات الشباب وخصيصاً الذين حملوا السلاح اصراراً كبيراً وتحدياً كي يشاهدوا ذرية أولادهم قبل أن تخطفهم آلة الحرب التي تشنها عليها عصابة الأسد ومن يستحضرهم النظام من مرتزقة من خارج البلاد، وهذا مفهوم من حيث أن الأطفال من أصلاب الأولاد ذكوراً أو اناث، يكونون امتداداً لمن قد يغادرون هذه الحياة بدون ميعاد.
ظهر ضمن الأوضاع الحالية ترسيخ لفكر الزواج الثاني أو المتعدد ولا زال الشكل الأساس القائم عليه هو الحصول على فرصة لتجديد الشباب الضائع وقد كان قبل قيام الثورة السورية مقتصراً على المقتدرين مالياً وأصبح بعد الثورة بمتناول اليد لأولئك الذين أصبحوا في مراكز سلطوية عسكرية وانتقلوا من طور الاشكال الاجتماعي الذي كان يمارس سراً بقصد (جهل الخمسين( ليعيد بعضاً من العشب للكرم الذي بات يابساً لطور العلانية التي لا تخاف من تبعات الموضوع، طالما أن السلطة باتت بمتناول أيديهم.
يعتبر حالياً الزواج الثاني حلاً تكافلياً للمجتمع بعد الخسارات الكبيرة التي خسرها المجتمع السوري بخسارة أولاده الذكور على أثر دخول الثورة السورية بطورها المسلح وارتفاع حالات الأرامل لمستويات كبيرة، ويعتبر مثل هذا الزواج المباح، والمقيد بشروط تكاد تنطبق على الوضع الحالي في سوريا، يحتاج خروجاً من عباءة الكيد والخصومة والدعوة للقهر والأنانية وطغيان فكرة المتعة الجسدية، والتي كانت تمارس عبره الاباحة الشرعية للزواج المتعدد من حيث الفقه الديني لغالبية السكان الذين يدينون بدين الاسلام.
لا يمكن الاجابة فعلاً عن السؤال هل هناك عزوف أو امساك عن الزواج؟، ولكن السمة العامة لمن يقدمون على هذه الخطوة كانت أنهم يتزوجون كي تستمر الحياة، متحدين الموت، ولكي تعود تدريجياً ضحكات الأطفال لتسكن الشوارع وتزين برنينها الفريد غرف البيوت التي باتت باردة وكالحة مع اشتداد انحسار الفرح واغتيال الأمل بالانفراج والانتصار.