الجمهورية – ابراهيم قعدوني
رهابُ الوطن!
قلّما أشاهدُ أحلاماً في نومي، وإن حصل فإنني نادراً ما أتذكرها، إلاّ أنني ومنذ انفتحَ الجرح السوريّ، شاهدتُ ثلاثة أحلامٍ تذكرتها في صباحات الأيام التالية. في أوّلها كنت أمسك يدَ أمّي التي لم ألتقِ بها منذ سنتين في حينه، كنّا نركض في دائرةٍ شبه مغلقة أمام مجموعة بيوتٍ تحلّقت حول ساحةٍ مجاورةٍ لبيتنا، وفوق رأسنا طائرة مروحيةً سوداء كانت على وشكِ إلقاء برميلٍ متفجّر فوقنا. صحوتُ مختنقاً برعبٍ لم أختبره من قبل، شربتُ ماءً وأوهمتُ نفسي بالرضى كوني لم أُفْلِت يدَ أمّي، في الصباح تأكّدت من وجودي أمام المرآة، ومن أنّ أمّي ما تزال حيّةً هناك في شمال سوريا المنكوب.
في المرّة الثانية كانت جرعة الرّعب أكثف، أنا في الطريق إلى حلب في حافلةٍ عامّة وقبل أحد الحواجز أتذكّر أنّني لا أحمل بطاقةً شخصيّةً وأنني متخلّفٌ عن خدمةِ العلم، يكاد قلبي يسقط من صدري، أفتح باب الحافلة وأجري في أرضٍ زراعية تبدأ بابتلاع قدميّ، أتابعُ الركض حتى أدخل حلب من طريقٍ لا أعرفها، يصرخُ أحدهم من سطحٍ عال: انتبه قنّاص، أصحو مذعوراً لأشربَ بعض الماء، وأتابعَ نهاري إلى العمل بمزاجٍ محطّم.
ثالثُ الأحلام كان كارثيّاً إلى درجة أنني أضعتُ تفاصيله حين صحوت قبل الفجر، وليس في ذاكرتي من تفاصيله سوى أنّني محتجزٌ لدى عناصر من تنظيم داعش في مزرعةٍ نائية، كنت أحاول الكلام لكنني فوجئت بعدم قدرتي على النطق!
استولى هذا الكابوس على مزاجي طيلة أسبوع قضيته متوجّساً من أن مصيبةً في طريقها إليّ.
بالنظر إلى غلّةِ أحلامي الأخيرة، لا أحتاج أخصّائياً نفسياً للخروج بتشخيصٍ جَلِيّ لحالتي، وأنني أعاني من رهاب الوطنِ المزمن.
راحت البلد.. وأنت أيضاً
منذ ما يزيد عن أربع سنوات وهذه البلاد شتاتٌ مضنٍ ومجلس عزاءٍ مفتوح على الضّفتين، إلاّ أننا مازلنا كلّما التقينا أو تهاتفنا في المنافي نقول لأنفسنا ولمن نجالس بأنّ أحداً لم يكن يتخيّل أن يحدث ما حدث، فيما يروق لنا أن نجرّد واقعنا المخيف من قسوته إذْ نخاتل مرارة ما نحن فيه بإنكارٍ ونكوصٍ عاطفيّ، مردّدين عبارتنا الاستشفائية الأثيرة: «يا رجل كأنه حلم، من كان يصدّق أن يحدث كل ما جرى! راحت البلد!».
في علمِ النفس يسمّون ذلك إنكاراً، صدّق أو لا تصدّق فالأمر سيّان عزيزي السوري، لقد تعثّرتَ مثلَ طفلٍ يجرّب خطواته الأولى وتناثرت حياتك كأنها كمشة طحينٍ خطفتها الريح، والبلد التي راحت لم تمضِ وحدها، بل أخذت معها كل ما يخصّك، حياتك وأنت. كما أنّ ما تخشاه حقيقةً وليس وهماً، فالبلاد التي عرَفتها ذهبت إلى غيرِ رجعة، وإنّك إن حدَث وعدتَ إلى حطامها لن تعثُرَ فيها على ما يخصّك، وسوفَ تلازمك أينما حللت كحدبةٍ على ظهرك. وحين تكون في المنتصف بين الضفّتين فأنت ضائعٌ في قسوةِ ما تراه من عمى، وستُمضي ما تبقى من عمرك تقدّم تعازيك لبشرٍ يتشاركون الخصومة دون شيءٍ آخر، لعلّهم أدركوا قسوةَ أن لا يكونَ المرء طرفاً في حربٍ تدور رحاها فوق المكان الذي احتضن حياته، ويُفترض أن يحتضن رفاته.
بلادٌ مهجورة، شتاتٌ لا قرار له
غادرتُ سوريا منذ ثمان سنوات إلى الخليج، زرتها مرّاتٍ معدودة في إجازاتٍ خاطفة كانت آخرها إلى دمشق نهاية عام 2010، جلسنا في مقهى المتحف الحربي على ما أذكر أنا وأحد الأصدقاء، تساءلنا بقلق على وقع الربيع التونسي والمصري، هل ستصلُ الريح إلى الشام؟ لم يكن لدينا إجابة واضحة، كان كل شيءٍ حولنا يبدو متماسكاً إلى درجة الموت.
قبل سنوات الثورة وخلال السنوات التي تلَتها، كنتُ خارج البلاد أنا وأخي الذي يصغرني، قادتني عقود العمل التي توفرت بعد إنهاء دراستي إلى الدوحة هرباً من استحقاق الجندية، وخشية تضخّم ملفّي المفتوح لدى عسس الدولة وحرّاس خرابها. ثم انتقلتُ إلى الرياض بينما استوطن أخي أرض بلجيكا، تركنا بيت العائلة في سراقب وفيه أبٌ على وشك التقاعد، وأمٌ لا تكفُّ عن حضِّنا على الصلوات كلّما اتصلنا بالبيت، وأختٌ تستعد لدخول الجامعة، وأخوان أنهى أحدهما دراسته، بينما علّقها الآخر بذريعة الواجب الثوريّ.
هبّت ريحُ الثورة وهزّت شجرةَ العائلة، ترمّلت أختي التي تصغرني بطلقة قنّاصٍ مذعور وضعها في رأس زوجها العائد من مزرعته برفقة محصوله السنوي، تاركاً إيّاها لأربعة أطفال أكبرهم لم يتجاوز الثالثة عشر وأصغرهم لم يبلغ الثالثة. كذلك فرّ الأخوة الذكور من متاهة الحرب، الصغير استقرّ في اسطنبول، والأكبر لحق بأخيه الذي يكبره في بلجيكا.
أمّا صديقي إيّاه، فقد انخرط في النشاطِ الثوريّ وخسر بيتاً وشقيقاً وأحبّة آخرين لينتهي به المطاف في عاصمةٍ مجاورةٍ يقصدها المشتغلون بالثورة.
بالنسبة لكثيرٍ من العاطلين عن العمل، تحوّلت الثورة إلى مهنةٍ ومصدرٍ للرزق والكينونة، خصوصاً مع وفرةِ المال السياسيّ وفاقة البشر، إلاّ أنّه يطيب لنا انتقاد هؤلاء، نحن المرتاحون إلى رواتبنا المنتظمة وبيوتنا الواسعة والمكيّفة وسياراتنا الأمريكية القوية في منافينا الاقتصادية الطوعية. أفكّرُ في الأمر، ثم أجيبُ نفسي بأن لا أخلاق في الحرب ولا قيم تحت خطّ الحاجة، لقد نُهِبَت قلوب البشر وتيبّست مشاعرهم أمام قسوة الحرب وبطش أهل النظام، فلم نعد نستغرب أن نرى أصدقاءً عرفنا وداعتهم، وهم يحوّلون صفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي إلى منصّاتٍ لعرض صور الجثث، كلٌّ من موقعه في الحرب.
لكِ يا منازل في القلوب منازلُ
بينما أكتب هذه السطور، يرسلُ لي أبي عبر الواتساب مقطع فيديو لجَمعةٍ مصغّرةٍ للعائلة حول مائدة اليبرق الشهيّ وكأنّها سُرِقت من فم الوقت السيئ. تجرّأ شقيقاي على الذهاب في زيارةٍ إلى سراقب، جاء أحدهما من بلجيكا واصطحبَ الآخر من تركيا يقصدان بيت العائلة، قلقنا في اليوم الذي سبق دخولهما من تركيا إلى الحدود السورية، إذ انقطعَ الاتصال بهما ساعاتٍ لتعذُرِ دخولهما من نقطة العبور الرسمي.
أعلّق على المقطع بسرعة «يا سلام يا سلام، شهّيتونا»، تردّ شقيقتي الأكبر برسالة: «يلاّ قوّي قلبك وانزيل»، تصفعني الفكرة ولا أجرؤ على مواكبتها، أتردّد أمام الإجابة، ثم أكتب لها: «الله كريم»، وأضعُ هاتفي جانباً بينما أقول لنفسي بأنّ الوقت سيطول قبل أنْ نعود لإلقاء التحيّة على حياتنا.
على غيرِ عادته صارَ أبي يشتكي مؤخراً من غيابنا، ويلومُ نفسه لأنّه سمح بفرارنا أمام عينيه، يكتب لنا على مجموعة العائلة في الواتساب بأنّه يشعر بالخيبة كلّما شاهد أبناء جيلنا من الجيران مع أطفالهم يملؤون البيوت، بينما يستفرد الغياب ببيتنا الواسع. أذهبُ إلى غوغل وأبحثُ عن شطر بيت الشعر القائل: «لكِ يا منازل في القلوب منازلُ»، وأسرحُ في عظَمة المتنبي.
لا بيوت لنا بعدَها «المنازِلُ الأُوَلْ»، تائهون بلا خرائط، ومنذ تركناها صارت الأمكنة سيّان، فيها كانت صرَخاتنا الأولى، ونحوها أبداً ستشيرُ بوصلةُ حياتنا المرتجفة.
أسئلة مبكرة عن المنفى: من أنت وماذا تفعل هنا؟
أثناء زيارتي الاستطلاعية لمنفاي الوشيك في لندن، وضعتُ لنفسي قائمة أهدافٍ لمعالجتها على المدى القريب. كانت العودة للكتابة إحداها، فخلال إقامتي في السعودية واستغراقي في العمل الوظيفي، ابتعدتُ عن الكتابة إلى درجة القطيعة، وطيلة سبع سنوات لم أكتب سوى مرّات معدودة كأنّها «أضعف الإيمان»، إلاّ أنني واسيت نفسي مؤخراً إذ اكتشفتُ أنّ للكتابة شروطها كما للحياة، فحين أتيتُ نيويورك لأيامٍ قليلة خرجت بكتابةٍ أحسبها رشيقة، وأحببتها كما أحبّها الأصدقاء. في لندن أيضاً تحرّك دمي أمام الحياة الجديدة، وغواية المنفى وفداحة الخسارات المفروضة على السوريّ أينما حلّ، وكيف صارت حياته حقولاً مهجورةً ومفتوحةً على الحرائق، وسرعان ما قفز إلى رأسي سؤالٌ مباغتٌ وقاتل:
من أنت وماذا تفعل هنا؟ أمسكتُ السؤال من رأسه ودسسته في جيبي مثل لصٍ خفيف اليد خشيةَ أن يلمحه أحد، سيكون هذا السؤال ذخيرةً لمواجهة الأيام القادمة، وربما قنديلاً مخادعاً في عتمةٍ قد تطول.
غادرَ الجميع، ومن تبقى يحزمون حقائبهم
لا يمكن لأحاديثنا اليومية أن تخلو من أخبار الهجرة وجديد أبوابها، حتى السوريون هنا في بلدان الخليج تستولي فكرة الهجرة على مُداولاتهم. الجميعُ يتحدّثون عن الرحيل، وحين تسأل عن الأسباب يقولون لك: «نريد أن نعيش، هذه ليست حياة». وأسألُ نفسي ما الحياة يا ترى؟ أليست وهماً نطارده حتى الممات؟! ما الذي يدفع بهؤلاء إلى الهجرة؟ ونحن أيضاً، الذين لم نكن من مشاهدي الحرب الدائرة في بلادنا الأم، ولم تطرق الطائرات وبراميلها مسامعنا، ولا قابلنا الذعر في أعين الأطفال وهي تبحث عن ملجأ يقيها غارات الطيران الوطنيّ الحاقد! أَلِأننا نهرب إلى الأمام حيث لا وراء نعود إليه؟
لا إجابة شافية في الوقت الراهن.
أمّا السؤال الأكثر إلحاحاً، والذي يجتاح خاطر المغادر بلا استئذان: أَمَهجَرٌ هذا أم منفى؟ ولا إجابات حاسمة كالعادة، غير أني أجرّب أن أقول لنفسي: هو برزخٌ بين حياتين.