كانت الساعة حوالي الثامنة مساء. توقفت سيارة التاكسي أمام الإشارة الحمراء، واقترب طفل في حوالي السابعة من العمر من نافذتي. وقف بعينيه الناعستين، ووجهه المستطيل صامتاً. سأله سائق السيارة عن اسمه، «عمر»، أجاب الصبي بصوت منخفض «، سألته، «من أين أنت؟» «من نواحي حمص»، قال.
اشارة المرور الحمراء صارت خضراء، أقلع السائق، لكنني طلبت منه أن يتوقف قليلاً لأنني أريد أن أكمل الحديث مع الطفل. «لماذا تحكي معه، كلهم شحاذين وكذابين»، قال السائق.
توقف السائق بناء على الحاحي، لكن الطفل أدار لنا ظهره. يبدو أنه سمع كلام السائق وشعر بالاهانة، فذهب إلى جانب الطريق متجاهلاً اليد الممدودة له بالدراهم. أقلعت السيارة من جديد، وبدأ السائق يشتم الغرباء واللاجئين. «كأن الخادمات السيريلانكيات لا يكفين لتشويه صورة المدينة، فجاءنا هؤلاء»، قال.
لم أكن في مزاج مناقشة هذا الكلام العنصري في بيروت التي حوّلها زعماء لبنان إلى مزبلة. تعبنا من الكلام وتعب الكلام منا. ماذا أقول؟ هل أقول له أن الهجرة اللبنانية إلى الولايات المتحدة في مطلع القرن الماضي بدأت بالنساء، وأن نساء لبنان ذهبن ليعملن خادمات كهؤلاء الخادمات الآسيويات في لبنان؟ هل أروي له عن مآسي المهاجرين اللبنانيين في المنافي كي أخرس فيه الصوت العنصري؟ وما نفع الكلام في بلاد صارت لغتها خرساء؟
خرس اللغة يدفعني إلى التساؤل عن معنى الكلام. تعبنا من المآسي، لكن المآسي لم ولن تتعب كما يبدو. حتى الطفل السوري وجد أن الكلام بلا جدوى. خرس اللغة ناجم عن الصمم، يتحول الرواي إلى أخرس أمام الأطرش، فيصير الكلام بلا جدوى، أو يتحول إلى اشارات عاجزة عن التعبير.
أخذني الفتى السوري إلى السؤال عن معنى المنفى. نكتب عن المنافي والهجرات والموت، لكننا ننسى منفى الأطفال الذي يجب أن يكون أكثر أنواع المنافي قسوة، لأنه منفى بلا كلام. وحين يكبر الطفل لا يجد أمامه سوى كلمات جاهزة فيلبسها.
أطفال سوريا كأطفال فلسطين من قبلهم يعيشون اليوم منفى الصمت. يعملون، يشحذون، ينامون في الخيام أو تحت الجسور في المدن، ولا يعرفون أين هم ولماذا انكسر فيهم العالم وإلى أي مصير أسلمهم الانهيار الوحشي لبلادهم.
لعل المنفى السوري هو أشد المنافي قسوة. فالفلسطينيون رغم كل ما جرى، احتفظوا بمفايح بيوتهم على أمل العودة إلى وطنهم. صحيح أن هذا الأمل بدأ يتحول إلى يأس، خصوصا بعد نكبات مخيمات لبنان وسوريا، التي أقنعت العديدين بضرورة الهجرة إلى أوروبا بحثا عن إقامة وجنسية ثابتتين، غير أن ترسخ فكرة العودة عند الفلسطينيين جعلت عذاباتهم جزءا من سياق احتمالات الوصول يوما ما إلى الوطن الضائع. أما السوريون الذين لجأوا إلى بلدان الجوار، فيشعرون بأن البلاد التي التجأوا اليها أو أقاموا فيها في لبنان والأردن والخليج وتركيا، ستبقيهم لاجئين وعبيدا إلى الأبد، وأن لا أمل بالحصول على أدنى الحقوق، ناهيك الحصول على الجنسية والكرامة. لذا ركبوا بحار الأهوال والموت بحثاً عن مكان يأويهم خارج هذا المشرق المأزوم بهوياته وانهياراته.
تقول حكاية هجرة اللبنانيين إلى الأمريكتين في القرن الماضي، أن أول ما كان يفعله المهاجر هو إرسال المال إلى أقربائه من أجل أن يشتروا له قطعة أرض يبني عليه بيته بعد العودة. الأكثرية الساحقة من المهاجرين لم تبن ذلك البيت ولم تعد، لكننا لا نزال إلى يومنا، نجد في بعض قرى جبل لبنان قطعاً من الأرض يُطلق عليها القرويون اسم عودة فلان. فلان لم يعد، وأرضه صارت ملكا للبلدية بعدما تفرّق الورثة، لكن اسم المهاجر يعرّف إلى اليوم بأرض عودته.
أعطت فكرة العودة المهاجرين قدرة على تحمّل الغربة ومشقاتها. فكرة جعلت عذاباتهم محتملة، وعاشت معهم طوال حياتهم، وعدم تحققها لا ينفي أهميتها النفسية والوجودية، بل يؤكد حاجة الإنسان إلى مكان يعود إليه.
أما حين تصير فكرة العودة مستبعدة أو مستحيلة، فإن اللاجئ أو المنفي يعيش عذاباً مضاعفاً، لأنه يشعر، وخصوصاً إذا لجأ إلى دولة عربية مجاورة، بأنه يعيش في لا مكان.
يحق لنا أن نسأل: لماذا يشعر العربي أنه غريب في الأرض العربية؟ فهذا سؤال يفتح جروحنا على حقيقة أن الفكرة العربية تندثر، ومعها تندثر فكرة الأوطان، فالمشرق العربي اليوم هوملعب للجميع لكنه ممنوع على أصحابه.
أن تكون في اللامكان بعدما اختفى مكانك تحت القنابل والبراميل ووسط جيوش المرتزقة الذين يهدمونه، تقدم تجربة مخيفة. فالمنافي الجماعية ليست نتيجة نظام قمعي كنظام آل الأسد في سوريا فقط، بل صارت نتيجة لاندثار المكان وخراب الزمن.
أن تكون بلا عودة أو بلا أرض عودة أو بلا حلم عودة يساوي في دلالاته فكرة أن لا تكون. يتحول الناس إلى اشباح، أليس هذا هو مقصد السياسة الكولونيالية الصهيونية في فلسطين، فيصير المواطن شبحاً سواء بقي في بلاده أو طرد منها؟
هذا ما فعله ويفعله بنا الصهاينة، وهو ممكن لأنه متوقع بسبب ضعفنا. أما أن يفعله بنا حكامنا وعصاباتهم، فهذا هو العبث الذي حين يكون تفقد كينونة الأوطان معناها.
الطفل السوري الذي التقيته في أحد تقاطعات شوارع بيروت لم يكن يحمل مفتاحاً في يده، أو عودة في عينيه، كان يقف كي يعلن بصمته أنه لا يريد أن يموت، وأنه لا يزال يمتلك الحياة رغم أنهم أفقدوه حقه فيها.
الياس خوري – القدس العربي