عبد الرزاق كنجو – زيتون
لابد وأننا نعرف أن أول لغة استخدمها البشر كانت بالرّسوم على جدران الكهوف والمغاور كوسيلة تفاهم
بصريّ بعد أن كانوا يتفاهمون بالإشارة والحركة، لذلك فقد اعتادوا على الرسم والتصوير بطرق بدائية تواكب تفكيرهم العفوي البسيط.
وهذا ما كان قبل التوصل إلى لغات مسموعة ومنطوقة والى لغة يفهمها أفراد المجتمع الواحد.
واذا علمنا ان مثل هذه المراحل تتطور ببطء شديد في المقياس الزمني لدورة الحياة.. عندها سنعرف كم من العصور قد توالت وتراكمت حتى وصلت الحضارة البشرية إلى ما وصلت إلينا الآن بشكلها الحالي.
ولا بد وإنّنا نؤمن بالقول المأثور عن السيد المسيح : ( في البدء كانت الكلمة ) وهنا المقصود حتماً ( الكلمة المنطوقة ) التي ألقاها سبحانه وتعالى على عبده عيسى عليه السلام وكذلك عندما قال الله ــ بواسطة جبريل ــ للنبي محمد عليه الصلاة والسلام:
( إقـرأ باسم ربك الذي خلق )وإننا نقول أيضا : بأنه في البدء ( كان على الجدران أوّل لغة بصرية منظورة ).
ولما كان الإنسان اجتماعياً بطبعه فلقد وجدنا أنّ المجتمعات تتّسع وتتطور لتشكل القبيلة والعشيرة والمجتمع . وإنّ من ضرورات التفاهم والعيش المشترك لابد من لغة موحدة ليتمّ التفاهم بموجبها , ومنذ ذلك الوقت بدأ الإنسان يسعى لترميز أصوات الكلمات ومدلولاتها بطرق مرئيّةٍ ومترجمة بصرياً بحيث يفهمها الإنسان بمجرد النظر إليها .. وهذا ما شاهدناه على جدران المغاور والكهوف للإنسان البدائيّ الأوّل . والتي لاتزال شاهدة وموجودة حتى يومنا هذا.
ولا يغيب عنا أيضاً ما خلّفه السوريون في حضارة مابين النهرين من نقوش ومنحوتات بارزة على الجدران ( ريليف ). وكذلك ما تركه المصريون لنا على جدرانهم من رسوم رائعة تحكي ( بصريّـاً ) قصص الفراعنة ورحلاتهم للصيد أو لتكريس ووصف الحياة المعيشية في تلك العهود.
ومنذ تلك الأثناء عمد الإنسان إلى وضع رموز ( مكتوبة ) للأشياء وللمعاني ( الملفوظة ) بحيث تكون الحروف عبارة عن أشكال تجريدية بالشكل , ولها معنى الدّلالة على ما يقصد منها, بحيث تكون مفهومة ومستوعَبة عند من لا يجيد فك الحرف وقراءة الكلمات.
ونتيجة تعلّق الإنسان المتحضر بالحياة الاجتماعيّة الجديدة فقد أصبح يتآلف ويتفاعل مع كل شيء من حوله باحثاً عن استمرار الحياة .. لكن بأرقى الطرق التي تميزه عن بقية المخلوقات.
هذه المقدمة الطويلة تقودنا إلى اهتمام الإنسان بكتابة مراسلاته وصكوكه إلى أن نزلت الكتب السماوية , والتي كان آخرها القرآن الكريم بآياته المعجزات. لذلك فقد راح المسلمون يتفاخرون بهذه الآيات ويُـولونها المكانة المرموقة التي تستحقها , فعمدوا إلى تجميل وتنميق حروف كلماتها عرفاناً واحتراماً لقول خالقها ولِـما تحمله من معانٍ تحدّد نمط الحياة وعلاقة البشر فيما بينهم من جهة .. وكذلك فيما بينهم وبين الخالق لكل شيء من جهة أخـرى.
بعد هذه المقدمة المطوّلة نسبياً نجد أنّنا وصلنا إلى الموضوع الذي نحن بصدَدِهِ وهو دور الخطاط الكبير سعيد النهري في تحليةِ وتذويقِ وتطويع كلمات الخط العربي , وربطها أو اسنباط شكلها المرئيّ بالعين مع المعنى اللفظي لهذه الكلمات في وقت واحد.
كما عـمـل ( النهري ) على إدخال العمق في اللّوحة كبعدٍ ثالثٍ, تدفع نظر المشاهد داخل اللوحة الخطية , وهي تعتبر تجربة رائدة لأنّ اللوحات الخطية بالعادة تكون على أول سطح اللوحة.
ولابد للعودة لبداية حياة الفنان سعيد النهري المولود في الجليل بفلسطين المحتلة عام 1961 وتخرجه من قسم الفنون الجرافيكيّة بكلية الفنون في حيفا . والذي عمل بعدها بمجالات الفن والرسم والكاريكاتير واخراج الصحف المختلفة.
وقد لفت نظر الفنان سعيد النهري رَونَـق وجمال الحروف العربية وصياغة الجمل والأقوال المأثورة بها على شكل لوحاتٍ مؤطّرة كان يحرص العرب والمسلمون على تعليقها ووضعها في صدارة بيوتهم ومجالسهم ومعابدهم للتأمل الصوفيّ بمعانيها .. وكتذكرة بما تحتويه من معانٍ وعِبَر . وهي متاحة فقط لمن يعرف القراءة العربية في مجتمع لا يزال تسيطر الأميّة على أكثر من نصف أفراده.
لذلك حرص على متابعة الخطاط محمد صيام وهو من أشهر الخطاطين الفلسطينيين في ذلك الوقت وتعلّم على يديه , بل ارتقى بفنه المتأصل بالرسم وربَطَه بالخطِّ , وفق الأسس الصّارمة لهذا الخط العربي الذي أبهر بيكاسو عندما رآه في لوحات الخطاطين أمثال ابن مقلة وابن البواب والآمديّ .. وغيرهم حيث قال:
( إن أقصى نقطة أردت الوصول إليها في فن الرسم , وجدت أنّ الخط العربي قد سبقني إليها منذ مئات السنين ).
انطلق النهري بتجربة مشروع خطيّ نادرٍ وفريدٍ أراد فيه أن يدمج الرسم الذي درسه بالخط العربي الذي أجاده بكافة أنواعه السبعة المشهورة ، وعلى رأسها خط الثلث ثمّ الديواني الجلي وراح يصوغ لوحاته المكتوبة بالأحرف ليكوّن منها لوحاتٍ بصريّةٍ , تفهمها العين حتى ولو لم تقرأ حروفها تماماً , وبذلك يكون قد رسم الكلام قبل كتابته , وإخراجه بشكل يصوّر النصّ المكتوب بشكل تعبيري مفهوم لكل ناظر إليه بعينيه.
لذلك نجد ان لوحاته الخطية لها الشكل التصويري أكثر من المحتوى الحروفي مع انه لايـبتعد عن قواعد الكتابة وصرامة اتصال حروفها, فكانت لوحته المبكّـرة ( واعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ترهبون بِهِ عدوّ الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم …. ) والتي جاءت على شكل رأس حصان , فلم يحشر فيها الحروف ولا يراكبها بشكل معقّـد أو غير مقروء.
ولما نجحتِ هذه اللوحة في أداء مهمتها وتوظيف الحرف فيها بالشكل وبالمضمون , عندها .. باشر يتجه في طريقه الصعب الفريد لإنتاج أكبر عدد من اللوحات المماثلة , بدأها بسلسلة أسماء الله الحسنى وغير ذلك من الآيات والسّـور المعبرة بالشكل عن المضمون المكتوب بعناية ودراية . وسنضع اكبر عدد متاح من هذه اللوحات الخطية التي تقرأ ذاتها بذاتها.
ولنتذكر هذا الاسم دائماً فهو أوّل من صوّر الكلمة المكتوبة تصويراً ..إنّه المبدع الخـطّـاط ســعـيــد الـنــهـري.