قدمت لي الثورة أكثر بكثير مما قدمته لها وفيها. كانت الثورة امتحاناً لبلاء عظيم على مستوى الذات خاصة، وعلى المحيط الاجتماعي عامة. صحيح أن البلاء منها كان عليّ وعلى عائلتي عظيماً، من حيث فقدان القدرة على استشارة طبيب لفواجع صحية، على أقل تقدير. لا يعرف معنى ذلك حقاً الا من عاناه.
وصحيح أن التشريد وفقد المنزل ومصدر الرزق، قد طالناـ كما كثيرين، وصحيح أن فقدان الأمان، وتملك الذعر، كان شأناً عاماً، وهذا فعلياً قلص من كثير من العناء، فشيوع البلوى تعين على تجاوز المحنة. ولكن من بإمكانه أن يتجاهل أنه كان هناك الكثيرين والكثيرات، الذين ذهبوا ضحايا الدفن أحياء، وكانوا ممن بترت فيهم الأعضاء، كما الأشخاص، ودفعوا بذلك الفاتورة الأعلى والأغلى. اللهم تقبلّ منهم يا رب العالمين.
لكن الثورة قدمت لي الفرصة كي أمتحن نفسي وقناعاتي وأن أقيسها بترو وبدون مبالغات. ومن ثم مطابقتها مع واقع ما قبل الثورة وما حواه وقتها من أحلام وادعاءات. على صعيد ذاتي، لم أنجح سوى على نحو يسير. فهذه المرحلة لم تكن سوى امكانية تحدي أن بإمكاننا أن نسوي أمورنا بأنفسنا ودونما وصاية من نظام مجرم، بنسبية طبعاً. ولكن بالمقابل قناعاتي بأمل التغيير زادت، مهما كان الثمن كبيراً، ولم تبدل المتغيرات وخذلان العالم أياً من مطالبي بالحرية والعدالة و تداول السلطة. صحيح أنني فشلت نسبياً، في مواضع كنت أعتبر العمل فيها شأناً جماعياً، ينبغي أن تكون المسؤولية فيه جماعية. لكن قناعتي عبر هذه الفترة بأنه كان يمكن ادارة الشأن العام بالمزيد من الوعي وبالمزيد من ضبط النفس والابتعاد عن الحدة ما أمكن.
كانت الثورة أفضل وقت قدمت لي فيه الناس على حقيقتها، وعن حقيقة معادنها وألوانها ومشاربها. لازلت أؤمن أن الثورة تغيير جامع في النفس البشرية كما في المحيط الاجتماعي الذي نعيش فيه. فليس صحيحاً أن كل من انتسب للثورة وعمل فيها، أخلص لها وفيها، وكان بين هؤلاء، أوائل وأواخر، عملوا ما بوسعهم كي يعيدوا ذات ما انقلب عليه الثوار وكانوا بذلك شركاء لنظام المجرم بشار في تأخير عودة الأمور لنصابها والأهل لمساكنهم وأرزاقهم.
كنت أقرّب الثورة من حيث التشبيه للهجرة التي قام بها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من مكة الحبيبة على قلبه والتي خرج منها مأموراً من الله بعد أن كثرت عليه المصائب وثقلت الشدّة والمحنة على الضعفاء والمساكين ممن اعتنقوا دين الاسلام هرباً من الظلم ومن الاستعباد والتفرقة وأكل أموال الناس بالباطل وكنت أقول للأصدقاء المقربين أن الثورة كما الهجرة وكل لما هاجر اليه وكل لما ثار عليه. وهنا كانت تصوراتي عن الثورة لازالت ناصعة البياض وهو خطأ كبير وقعنا فيه كأفراد من حيث الانغماس بنرجسية مثالية للثوار.
الحقيقة بات تشبيه الثورة بالنسبة إلي يأخذ شكلاً أكثر فوضوضية وأكثر قبولاً لمخرجات ونتائج انغمس فيها الأفراد والمجتمع ضمن مستنقع الفساد والافساد، فبت أقرب للتصور أنها محاولة مهنية من قبل عاملي صرف صحي يحاولون جهدهم ليتمكنوا من (تزيل) مجرور صحي بات لشدة تراكم الأوساخ والأقذار يصيب المجتمع بوابل من الأمراض ويسمح بتكاثر القوارض والحشرات بشكل كبير ومتنام ومؤذ فيها. الحقيقة أن هذا التصور لا يسمح لأفراد المجتمع بالحديث عن انكسارات أخلاقية عندما يشاهدون تصرفات غير مقبولة من بعض ممن تصدى ليكون في صدارة المشهد الثوري لأسباب مختلطة، بل وبكل بساطة لا يخرج الموقف خارج اطارات المثالية المفرطة بالتعقيد والمبالغة بتصوير الطهرانية لمن هو محسوب على الثورة وخصيصاً ممن حمل السلاح دفاعاً عن المستضعفين ضد عصابة الأسد.
لازلت متمسكاً بالثورة، ولازلت أقبل أن أخوضها مرة أخرى، مع خيارات مختلفة، ربما، ولازلت مقتنعاً أنه تقع علينا مسؤولية أخلاقية في ما وصل اليه الناس من تعب وشقاء.
أصدقائي الذين لا زالوا يحملون المشعل بثبات، اليكم تنحني الجباه وفيكم الأمل مهما عظم الألم. وأنت أيتها المعارضة الخارجية، عليك من الله ما تستحقين، فقد أخذت كل الفرص الممكنة كي تكوني على مستوى تضحيات الشعب السوري في الحصول على حقوقه في الحرية والعدالة وتداول السلطة.
أما أنت يا من حملت السلاح دفاعاً بوجه آلة قتل ليس كمثلها في البلاد. دع عنك أخي شكل المسميات لدولة ليست بعد بمتناول الأيد. اثبت على الحق الذي خرجت فيه ضد كل ظلم وضد كل طغيان وفساد. فإن ذهبت شهيداً فنعم الأجل الذي ذهبت فيه، وأجرك على الله، ومن يكن أجره على الله فقد فاز. وإن انتصرت فستكون شريكاً في الاختيار.
عبد الكريم أنيس