ظهر مفهوم توسيع الفضاء المسرحيّ مترافقاً مع إزالة الجدران والمفروشات من الديكور ومع تطوّر تقنيّات الإضاءة، ووراء كلتا الناحيتين كانت الحاجة الملحّة لتوسيع الخشبة للمزيد من الاتصال مع المتلقّي الذي أخذ دوره كمشارك في العمليّة، فتوجّب الخروج من العلبة الإيطاليّة مع بدايات القرن المنصرم.
من جهة النصّ، لعبت مسرحيّات الفصل الواحد، ومنها نصوص «يوجين أونيل»* دوراً في إلغاء الستارة المسرحيّة التقليديّة، وأنضجت مفهوم السينوغرافيا المعاصر عمليّاً، إذ تطلّب الموضوع أن توحِّد المشهديّة بين الفعل المسرحيّ وتغيّر ألوان الإضاءة مثلاً، كما في مسرحيّة «حيث وضعت إشارة الضرب»، أو في العمل السياسيّ الكبير «الاستعراض الأحمر» الذي تطلّب من المخرج «إرفين بسكاتور»** استخدام ملعب لكرة القدم ليعرض عمله.
أمّ المسرح السوريّ فقد بقي حبيس الصالات المشادة لعروض السينما حتّى اليوم، لكنّه تخلّص جزئيّاً من الديكور المؤلّف – غالباً – من عدّة أرائك في وسط المسرح وجدران عليها لوحات ضمن أطر، والستارة الحمراء ذاتها! كما في جميع أعمال «محمود جبر» الذي واظب التلفزيون الرسميّ على بثّ أعماله طيلة عقود.
بعض التجارب المسرحيّة اخترقت هذا النمط بدءاً من المسارح الجامعيّة منتصف السبعينيّات، ولكن لم ينتشر أيّ من مسرح المقهى أو الرصيف أو ما يشبه ذلك؛ ولعلّ الموافقات الأمنيّة لم تمنح لمثل هذه العروض، خلا بعض الاستثناءات كعرض يتيم كان يتمّ في حوش دار عربيّة لعمل التخرّج الذي يقدّمه طلبة السنة الرابعة والأخيرة من المعهد العالي للفنون المسرحيّة بدمشق. أو فرقة أجنبيّة سائحة جاءت بدافع الفضول أكثر من رغبتها في تقديم مقترح فنّي جادّ.
خصّصت السلطات المسارح المفتوحة (الرومانيّة) كمسرح بصرى ومسرح قلعة حلب وغيرهما للمهرجانات التي تسمّى فولكلوريّة، ليقدّم عليها – فعليّاً – الدبكة وأغانٍ لا تستحقّ الذكر.
بعد خروج الشعب السوريّ في ربيع 2011 إلى الشارع هاتفاً ضدّ الاستبداد، أبدع كلمات وألحاناً جديدة، وأصبح يجسّد على الأرصفة وفي الحارات مشاهد تعبّر عن توقه للحرّيّة، فقد ظلّ مقموعاً لعشرات السنوات؛ وكان لحرص أجهزة القمع على قتل كلّ من يحاول التجمّع في الساحات الرئيسيّة داخل مراكز المدن، أثراً حاسماً في انعدام إمكانيّة تقديم أيّة مشاهد لحين وُجدت مناطق محرّرة.
ثمّ انتشر تقديم مشاهد إيمائيّة في ساحات بلاد نزح إليها السوريّون من قبل فرق شابّة كفرقة «خطوة» الفنّيّة التي شُكّلت من عدّة شبّان هواة. كما شاركت مجموعات شبابيّة عبر وقفات تعبيريّة في ساحات المدن الغربيّة بغية إيصال الصورة الحقيقيّة عمّا يجري داخل سورية، فأدّوا مشاهد صامتة تصف موت آلاف الأطفال اختناقاً بغاز السارين في الغوطتين. وفي تجربة للفرقة نفسها عبر مسرح الغرفة تساءل أعضاء الفرقة قائلين « بزحمة هالدم، يا ترى لسه فينا نعمل مسرح؟!
يا ترى لسه فينا نثور بدون ما يكون معنا رصاص؟!
لسه الفن جزء من الثورة السورية؟!».
ربّما تكون صور الدمار الذي تولّده براميل النظام المتفجّرة فضاءً للمشهد المسرحيّ الرافض للقتل والجريمة، وأساساً لخلق نهوض الإنسان، على عكس ما يرمي إليه القاتل، فقد قام أحد الرجال برقصة عربيّة بطيئة ملوّحاً بمحرمتين وهو يخطو على بقايا سقف بيته المسوّى بالأرض والذي كان يضجّ قبل ليلة بحفلة عرس ابنه البكر عندما هوى البرميل من الحوّامة، نجا جسد الرجل، فقط، ليتمّ الرقصة على الأنقاض، تحت ضوء آليّات الدفاع المدنيّ. أيّ ديكور هذا، وأيّة إضاءة أو موسيقى يمكن أن تقترحون؟!
هامشان:
* يوجين أونيل (1888 –1953) كاتب مسرحيّ أمريكيّ، أوّل من كتب الدراما الأمريكيّة الحديثة.
**إروين بسكاتور (1893 – 1966) مخرج مسرحيّ ألماني، أحد مؤسّسي المسرح السياسيّ.
بشار فستق