هـي لاتذكر بعد ولادتها في دير الزور سوى أنـها رسمت الشّمس الصّفراء السّاطعة لأول مرة في طفولتها , أتبعتها بإضافة اخضرار أعواد القصب الأخضر الذي يرتفع عالياً على ضفاف نهر الفرات في تعرجاته المختلفة.
كما كانت مولعة بمراقبة تساقط أوراق الأشجار الهرمة في فصل الخريف وانجرافها وهي تطفو على سطح الماء المتهادي , مخلّـفة بقعـاً من اللّون البرتقالي المتشرب ببقايا الأخضر الدّاكن .
هذا كل ماتتذكره الفنانة التشكيلية عتاب حريب في بداية وَلَعِها بالرسم والتلوين لحقول القمح الخضراء في فصل الربيع مع متابعة تحوّلها اليومي لسنابل الحبوب الذهبية قبل الحصاد .
لكن بيوت الفلاحين الطينية بنوافذها المنخفضة والضيّقة كانت لاتفارق عيونها أينما اتجهت. لذلك حملتها معها بانطباع تشكيلي نحو مدينة دمشق التي قصدتها للدراسة والتخصص في كلية الفنون فيها ولتكون بعد ذلك مدرّسة في ثانوياتها ومعاهدها وجامعتها التي تخرّجت منها .
ولقد حملت معها أيضا جميع الألوان الزاهية التي اعتادت بنات الجزيرة والفرات على انتقائها لتكون أساس ألبستها المزركشة ولما فيها من بهجةٍ للنفوس وجذبٍ لأعين الناظرين من شبابٍ أو كهولٍ في مناسبات الأعراس والفرح.
لقد تعلقت عتاب حريب بالألون المائية وحرصت على أن تـنـفّـذ معظم أعمالها بهذا الماء المدّد بقليل من اللّون , حتى لنكاد نشعر أنها تغطي سطح لوحتها بزجاج شـفّـافٍ يحمل شفيف اللّون أكثر من اللّون ذاته , وهذا مايميز لوحاتها ويجعلها لامعة بعيدة عن كثافة وسماكة الألوان التي تغطي سطح الورق الأبيض , ممّا يزيد اللوحة الإشعاع .. والضياء .
ولقد لجأت الى رسم لوحاتها من الطبيعة وعناصرها المختلفة لعدم تمكنها من بناء اللوحة التي تعتمد في موضوعها على التشخيص والتشريح لحركات جسم الإنسان
كما حرِصَت في جميع أعمالها على أن تكون نهارية الإضاءة معتمدة على مصدر النور الجانبي لتحقيق التباين في اللون بسهولة ويسر .. وذلك تكريساً لما حملته في ذهنها من شدة سطوع الضوء ومن عتمة الظل في نهارات الجزيرة السورية المعروفة بطول النهار وشـدّة انعكاسه .
ولطالما كانت ترسم بالماء الملّون الشفاف معتمدة على إسالته بعناية , وعلى تغطية المساحات المخصّصة لكل عنصر في اللوحة وفق إحساس خفيٍّ وعفويٍّ لم تكن هي قد خططت له مسبقاً , باعتبارها تعتمد على السّرعة في تثبيت العناصر ودرجات الألوان قبل جفافها لذلك غالباً ماتنهي اللوحة بجلسة واحدة , بعد تجميع الأفكارللموضوع والإستعداد له لفترة طويلة .
وهنا نجد الفرق الشّاسع بين من ينفذ أعماله الفنية بالألوان الزيتية التي لاتجفّ الاّ بعد مرور أيّام وأسابيع , ويمكنه دائماً العودة اليها ومتابعتها لجلسات وجلسات قد تمتد لفترة من الزمن , بينما التلوين بالألوان المائية يتطلب سرعة ومهارة كبيرة لإنهاء اللّوحة قبل تجفافها.
إمتازت ألوان لوحات الفنانة عتاب حريب بالشفافية المُطلقة وبنظافة اللّون الذي تحرص دائماً على استنباطه وتمديده بدرجات مختلفة كي تحقق من خلال ذلك الظـلّ والنّـور للوصول الى البُعـدِ الثّـالث , وإشعار المتأمل بالكتلة القريبة وبالكتل البعيدة التي يسبح معها النظر ويمتد داخل المشهد
إنّ حرصها على تقديمها المواضيع الخلوية المفرحة والبهيجة في الطبيعة الصامتة والمناظر الطبيعة والتي غالبا ماتكون لقطتها من ارتفاعٍ عالٍ وواضحٍ فوق مستوى النظر, الاّ اننا لانشعر بتقصّدها ذلك لأنّ أعيننا تغرق في التفاصيل وتتابع حجارة الجدران المهجورة هنا والشبابيك الكثيفة هناك , أو قوارب الصيادين المتناثرة فوق سطح الماء الأزرق .
وإضافة لكونها مدرّسة في المعاهد والجامعات فلقد عملت على تصميم الأزياء والملابس للمسرحيات والبرامج التلفزيونية ,وحازت على الكثير من الجوائز المحليّة والعالميّة , وامتازت لوحاتها بإضفاء المزيد من البهجة والفرح الى النفوس من خلال لوحات الازهار والورود التي امتازت وتفوقت فيها .
لم تتوقف الفنانة عتاب حريب في إنتاجها أو تتمحور في مدرسة فنيّة عالمية أو طريقة واحدة , ذلك لأنها تؤمن بتطوّر الفنان الدائم , وبتنوع انتاجه المستمرّ وفقاً للحظة إبداع العمل الفنيّ ودوافعه .
لكن اغتيال ولدها الشّاب من قبل داعش قبل سنتين في دير الزور جعلها تفقد بريق ألوانها الوضّاءة وتتجه من حيث لاتدري الى مزج ألوانها بشيْ من القتامة التي تكاد تفقدنا متعة الفرح كلما نظرنا الى لوحاتها .
وعلى الرغم من رحيلها بعيداً عن أرض الوطن السوريّ.. وإقامتها حالياً في الولايات المتحدة الامريكية, وسط ترحيب ودعوات من معظم صالات العرض العالمية , الاّ انها تنتظر لحظة الإنتصار على القتلة البغاة وعودتها لترسم تحت أشعة الشمس التي اعتادت فقط على ضوئها المشرق في سورية.
عبد الرزاق كنجو