قصصتٌ قطعةً من ثوبِ أمي لكي لا أجوعَ يوماً , ومازلتُ محتفظاً بقارورةٍ جمعتها من عرقِ أبي والذي مازال يخرجُ من مسامه ليصنعَ دربنا .
خرجتً مع الريح ,من مدافن الريح, سابحاً في الأفق كـ نطفةٍ بين آلاف سابحات, كلنا نطاف نبحثُ عن بويضةٍ في مكانٍ لايشبهُ طهارةَ ما خرجنا منهُ أولَ مرة .
خرجتُ بلا حقيبةٍ كٌبرى, كانت حقيبةً تتسعٌ لحلمٍ ووطنٍ وبعضِ الأسماء, كُل الأسماء في حقيبتي جفت مع أولِ شمسٍ في الصحراء وتبخرَ الباقي من أثرِها لكي لايُحدِث الصدى، حملتٌ قيثارةً من صوتِ حبيبتي كي لاتنهشني ذئابُ الوحدة المتربصة بي، بنا، بكلِ النطاف التي نصبت خيامها في المنافي .
خرجتُ منتعلاً دربي المجهول, بقياس واحد وعشرين سنة ويومان للذكرى أحدها محرقة والثاني مواراةُ جثثٍ في قبور صارت ترفاً, والآن زادَ عمري مجازرَ وقتلىً أخرين غير الذين نصبوا خيامهم في غياهب الوطن, تحتَ زرقة السماء المفتوحة للصواريخ والطائرات وشظايا السيارات المفخخة .
زادَ عمري هامشاً ورويً مترنح, لا عربي ولا أعجمي، روي من لغةٍ تجذبُ الهولَ والويلَ من بعيد, تفترشُ الأرض قصائد محلاة بالسكر وأقلام معدة لقبحٍ يشبهُ هذا الزمان .
زادَ عمري وانحسرت معهُ الحقيبة, خسرتُ حُلمي على حسابِ الوطن الذي ما زال يعبثُ في حقيبتي عند الحاجزِ نفسه والشرطي نفسه والمقاتلِ نفسه, عندَ حاملِ الحقيبةِ نفسه، كلنا حملةُ بنادق ولو في الخيال, كلنا نشتّم رائحةَ البارود لننسى حليبَ الأمهات, كلنا نَعرفُ بعضنا جيداً فلا نكثرُ الكلام, ونكتفي بتبادلِ النظرات لكي لا نوقفَ ضحكاتِ الريح بيننا أو فينا .
خرجتٌ وما بي رغبةُ لأقولَ وداعاً لأحد, أكرهُ أن يحاولَ أحدهم الحزنَ ويعتصرَ الدمع ليقول ألقاك, أكرهُ المعانقة في ساعاتِ الالتفات للقطار أو الحافلة, كما أكرهُ ونكرهُ اطفاءَالسيجارةِ عندَ قدومِ الناقلات كلها.
الريح معبرُ مفتوحُ للالتفاتات الخاطفة, ورحلةُ بين الماضي والقادم, لا حاضرَ لنا سوى ما يمنُ علينا به شريطُ الأخبار ولونُ التراب بعد المجازر أو الاعدامات الكرنفالية, لا حاضرَ لنا لأننا تذاكرُ عبورٍ متجددة, أمس كُنا هناك واليومَ نكون هنا وغداً ستضيقُ الهاء لتقتل كلنا .
خرجتُ بلا صيغةٍ محددة, خرجتُ مدعياً كلَ شيء, بشقي الادعاء، في الداخلِ مني كاذبٌ وصادقٌ، وقاتلٌ و مسعفٌ، في داخلي ضدي الثابت وفي خارجي تذبذباتٍ كلما مرت عليها الريح تتغير وجوه السحالي.
خرجتُ أسبُ نفسي وألعنُني, كما خرجَ كُل أولئكَ الذين باعوا أحلامهم في مزادٍ علني, للبحرِ للبرِ, لعيونِ عليا, لجدائلٍ كالليل, لحاناتٍ مكتظةٍ بالألم, لنواقيسٍ صامتة ومآذنَ متآكلةٍ, لجدرانِ المبكى الممتدةِ من الحُلم الى الحُلم, بعنا كلَ شيءٍ لكي لا نفقدَ رغبتنا في النومِ في حضنُ البويضةِ السابحةِ في البعيد, حين يدنو الأفقُ منا, يأتي بظلها, فيأذنَ لنا كي نخرجَ من جديد .
محمد حاج حسين