حوار تاريخي على مشارف القادسية الأولى …
يروي ابن كثير أن سعد ابن أبي وقاص، قائد جيش المسلمين، أرسل رجلا اسمه «ربعي بن عامر» ليفاوض رستم قائد الجيوش الفارسية قبيل وقعة القادسية. قال:» فدخل عليه، وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة والزرابي، وأظهروا اليواقيت واللآلئ الثمينة والزرابي العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة ، وقد جلس على سرير من ذهب . ودخل عليه ربعي بثياب صفيقة و سيف و ترس و فرس قصيرة ،و لم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط. ثم نزل و ربطها ببعض الوسائد ، وأقبل و عليه سلاحه و درعه ، و بيضته على رأسه. فقالوا له :»ضع سلاحك !»فقال:» إني لم آتكم ، وإنما جئتكم حين دعوتموني فان تركتموني هكذا وإلا رجعت!» فقال رستم :» ائذنوا له !» فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق ، فخرق عامتها .فقالوا له :»ما جاء بكم؟» فقال:» الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه. فمن قبل ذلك قبلنا منه و رجعنا عنه .ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله. قالوا :»وما موعود الله ؟»قال:» الجنة لمن مات على قتال من أبى، و الظفر لمن يبقى.» فقال رستم :» قد سمعت مقالتكم ،فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا ؟» قال :»نعم ! كم أحب إليكم ، يوم أو يومان ؟ « قال : « لا ،بل حتى نكاتب أهل رأي رؤساء قومنا.» فقال:» ما سنّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك و أمرهم. واختاروا واحدة من ثلاث بعد الأجل» فقال : « أسيدهم أنت؟» قال : « لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم». فاجتمع رستم برؤساء قومه فقال :
«هل رأيتم قط أعز و أرجح من كلام هذا الرجل ؟ « فقالوا : « معاذ الله أن تميل إلى شئ من هذا و تدع دينك إلى هذا الكلب.أما ترى إلى ثيابه ! «فقال :»
ويلكم ! لا تنظروا إلى الثياب ، وانظروا إلى الرأي و الكلام و السيرة. « فسقطت إمبراطورية كسرى , وتحولت فارس من المجوسية إلى الإسلام .
احتقان فارس التاريخي
على الرغم من إسلامها, إيران الخميني لم تخرج من دائرة محاولاتها التاريخية الدؤوبة لاستلاب الدور العربي في الإسلام, فمنذ خمسمائة عام وهي تهاجم العراق, بوابة العرب الشرقية, حيث لم يستطع الإسلام الذي اعتنقته فارس إطفاء وتخفيف موجة العداء الفارسي تجاه العرب الذين يرفضون أن يكونوا أصحاب دور تابع في الإسلام تحت راية القومية الفارسية بثوبها الشيعي المفصل على قدر مطامعهم, فالإسلام الذي دخل فارس أبقى على نظمها شرط ألا تمس بالدعوة الإسلامية مما ترك لفارس حرية التعاطي مع مقوماتها, فاستظل الفرس ظل الإسلام ونمت حركتهم كخروج عن الإسلام ووطدت إيران إسلاما فارسيا تحت ستار الشيعة للرد على العرب الذين دمروا امبراطوريتهم. حتى بات التشيع الرباط القومي للفرس أو صيغة التوحيد لجموعهم في وجه العرب. وليس عبثا ما أنتجه الفكر الفارسي من إطلاق مذاهب دينية متنوعة، تبين فيما بعد أن هدفها تفتيت للإسلام وتحريف له ولمعطياته, وإسقاط للدولة العربية الأموية, بثورة فارسية قادها أبو مسلم الخراساني, كان سقوطها مقدمة لامبراطورية عباسية مفككة لعب الفرس الدور الأبرز في الهيمنة عليها. مما أنتج دويلات عديدة متصارعة, واستيلاء فارسي على بلاط الخليفة العباسي, واستعصاء فارسي نفسي على تقبل الإسلام الذي صيغ للعرب كما يفهمه الفرس. ومع وصول الخميني للسلطة في إيران نضج الصراع التاريخي بين الأمتين على نار التاريخ حيث أنهى العرب الامبراطورية الساسانية على يد الشعب القبلي البدوي الذي وحده وقاده النبي محمد صلى الله عليه وسلم, ومنذ ذلك التاريخ أصبح الهاجس العربي والانتقام من العرب شيئا يدخل في غريزة الفارسي وينمو مع حليب الأم, إلى أن استطاع الفرس توظيف الإسلام في دائرة الصراع ليصبح التشيع الفارسي بؤرة من بؤر تأجيج الحقد العنصري ضد الرموز العربية التاريخية التي كانت عاملا من عوامل إسقاط الإمبراطورية الفارسية. فدخلت إيران الإسلامية في حرب مفتوحة ضد العرب منذ معركة القادسية وحتى يومنا هذا, ومنذ بداية القرن العشرين, والعرب, يواجهون متاعب على حدودهم الشرقية ويعيشون الهاجس الإيراني الذي تحول إلى تهديد شبه يومي, ثم تطور إلى حرب ضروس عام 1980م, كان لابد منها لأنها عبرت عن حالة احتقان عدواني تاريخي لم يكن من سبيل سوى مواجهته بقوة وحزم.
الإسلام الشيعي ضرورة لمفهوم «الإرينة»
نشأ الإسلام الفارسي بما يتناسب وبيئتهم ووضعهم النفسي والروحي, وترعرع الفرس على ديانة مذهبية شيعية كما رسمها أسلافهم لا تمت لجذور التشيع العربي بصلة, والحرب التي تشنها إيران اليوم على دول المشرق العربي ما هي إلا نهاية منطقية للدور الصدامي التاريخي الذي أهلته الولايات المتحدة, فجذور الخلاف الفارسي العربي قائمة في الأصول الثقافية والحضارية والقومية ولم يغير الإسلام في أحقاد الفرس, بل استطاع الفرس تغيير المفاهيم الأصلية للإسلام.
ومنذ داريوس الكبير وملوك ساسان إلى الشاه عباس وصولا إلى الخميني وآياته, كلهم يسعون إلى احتلال المركز الأقوى والأهم في المنطقة العربية, ولا تزال عقلية القرن العاشر الهجري تتحكم بسلوكية آيات الله.
من هنا, أصبح همهم الوحيد وهم يتسللون إلى البلاد العربية, التبشير بولاية الفقيه وتثبيت فكرة الإمام الغائب والترويج للجمهورية الاسلامية وإثارة النعرات المذهبية وتعميق الحقد على الرموز العربية التاريخية. وتأكيد القيادة الأجنبية على أرضنا العربية حتى رأينا صور الخميني تملأ مساحات واسعة في بلاد العرب بصفته نائب الإمام الغائب على الأرض. إذ أنّ مراوح الحركة الإيرانية في المنطقة واسعة ومتعددة ومتنوعة, ووجدت أرضا خصبة للتبشير بالتشيع السياسي، فالإسلام نفسه والسماح الموجود فيه هو الذي شكّل المدخل العريض للجموح الفارسي ضد العرب في الإسلام نفسه ومن خلاله, والإسلام كما هو معروف لا يستقيم دينا للعرب إذا لم تكن قيادته عربية, هكذا كان الإسلام السياسي المبكر.
ولما استطاع الأتراك انتزاع الخلافة, أوجد الفرس مقابلها صيغة الإمامة العربية مجسدة بآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم, وطوروها بهالات من القداسة والعصمة وبطنوها بشحنات كربلائية, وغيبوا الإمامة العربية مع المهدي المنتظر الذي أدخلوه في غار بسامراء, ليقوم مقامه نائب الإمام, يتمتع بجميع حقوقه وصفاته وصلاحياته, ولم يعد مشروطا أن يكون الإمام النائب عربيا, فانتقلت إمامة الشيعة للفرس بكل هدوء وتنظيم ليكون الخميني على رأسها, ومن ثم الخامنئي اليوم بصفته نائبا للإمام والوليّ الفقيه.
ويجد «دوراج» وهو مفكر إيراني معاصر: «أن الإسلام الشيعي يشكل ضرورة لمفهوم «الإرينة» أي النزعة القومية الإيرانية: «عبر التاريخ كان على الإيرانيين أن يتكيفوا مع ثقافات الغزاة، ومنهم العرب، لكي يبقوا على قيد الحياة.
ومع ذلك يشكل هذا جانباً واحداً من تطور الهوية الثقافية الإيرانية. أما البعد الآخر من هذا التطور فقد تجلى في السعي الحثيث لتشكيل هوية إيرانية مميزة. ومع أن المضمون الإيديولوجي لهذه الهوية الجديدة قد تأثر، وبشدة، بثقافة المحتل، وباختيار المذهب الشيعي مقابل المذهب السني، فقد آثرت أقلية من الإيرانيين، أن تختار هوية إسلامية مميزة. وبعد التشيع الإجباري الذي بدأ عام ١٥٠١، دعمه وعي قومي في نهاية القرن التاسع عشر، تمكن التشيع من تثبيت موقعه أكثر في الحياة الثقافية الإيرانية، وبات جزءاً لا يتجزأ من الهوية القومية الإيرانية»
لذلك استخدموا التشيع في إطار علاقاتهم الخارجية على نطاق واسع بما يخدم المشروع الإيراني في المنطقة. فمنذ وصول الخميني إلى السلطة في طهران, متأثرا بتجربة اليهود في فلسطين, سمى دولته في الدستور, إيران الشيعية الفارسية, على غرار إسرائيل اليهودية, وكما عصابات الهاغانا الصهيونية, أوجد عصابات الباسيج والحرس الثوري, التي قتلت وهجّرت كل من لم يقبل بحكمه الديني الشيعي. وما حديثه عن القدس وفلسطين, وخطابه الثوري المعادي لأميركا والغرب, إلا ممرا لتخدير المشاعر العربية والتسلل بهدوء إلى المشرق العربي, لكسب قطاعات واسعة لدى الرأي العام، واستقطاب الشارع لخلق بيئة مناسبة لتقبل الدور الإيراني الإقليمي عبر هذا الباب, وكانت التقية السياسية “المستندة لتقية دينية هي صلب الفقه الخامنئي للمذهب الشيعي” وسرّا أساسيا لنجاحات إيران وتحقيق مطامعها, ويرى الباحث الإيراني والخبير في السياسة الخارجية الإيرانية في طهران «فرزاد بيزيشكبور» في مقال له بعنوان «إيران وميزان القوى الإقليمي»:
«إن النظام العراقي بقيادة صدام حسين لم يعد موجودًا اليوم، أما النظام الثاني المعادي لإيران والمتمثل بنظام طالبان الأفغاني فقد تم التخلص منه. واليوم فإن القادة الجدد للعراق وأفغانستان أكثر قربًا لإيران من أي طرف آخر، وبدلاً من صدّام لدينا الآن رئيس عراقي غير عربي وفخور بمعرفته وإتقانه اللغة الفارسية، وعدد كبير من أعضاء الحكومة العراقية والبرلمان العراقي كانوا قد أمضوا سنوات طويلة في إيران وأنجبوا أولادًا لهم هنا ودخلوا مدارس طهران وتعلموا بها. كذلك يحتل الشيعة اليوم في العراق ولبنان والبحرين مواقع مهمة داخل الأنظمة السياسية لبلدانهم مما يعطي إيران كنتيجة لذلك اليد العليا في المنطقة «.
سياسة البطش الإيرانية ضد السوريين ومسؤولية العرب
منذ اندلاع الثورة السورية في العام 2011م, وإيران تتدخل في الشأن الداخلي السوري على شكل إرهاب مذهبي تفتخر به إيران ويظهر ذلك من خلال إرسالها قوات من الحرس الثوري وإيعازها لوكيلها في لبنان حسن نصر الله بالتدخل العسكري المباشر في سورية وتجنيدها لآلاف الشيعة من مختلف أصقاع المعمورة للحرب ضد السوريين باعتبار سورية قاعدة أساسية لها, وللنفوذ في سائر المنطقة. ونافذة على المتوسط, وتمكنت عبر سورية من أن تصبح جارة لإسرائيل من جهة لبنان, مما يعني أنها تسعى لتجسيد ما يسمى الهلال الشيعي الممتد من إيران فجنوب العراق وصولا لدمشق وجنوب لبنان والقلمون وحمص والساحل.
ولتحقيق هذا المشروع دفعت إيران بكل قوتها وأحقادها لارتكاب أبشع المجازر, وعاثوا في سوريا فساداً, فقتلوا وذبحوا وتدخلوا في أدق التفاصيل داخل البلاد، بحجة حماية الأماكن الدينية ونصرة لمحاليفها في محور المقاومة. وشرعوا في ترسيخ نفوذهم في سورية, بالإغراءات المالية والجنسية عبر زواج ( المتعة ) لتجنيد الشباب, وبالقتل الممنهج على خطى العصابات الصهيونية وبالتركيز على مناطق شيعية ( نبل والزهراء , والفوعة وكفريا ) وغيرهم من الشيعة في سورية, وألحقوا العلويين بتيارهم الشيعي, باعتبارهم من ذيول الشيعة, ولهم النفوذ الأكبر في الدولة السورية, لجذبهم إلى فلك سلطتهم عبر ضخ أوهام وخرافات تاريخية للثأر من أحفاد معاوية الذين قتلوا الحسين, فتولوا تخريب سورية لصالح إيران والقتال ضد شعوب دولهم في إطار التبعية لها كمرجعية شيعية, وجعلهم حطب ووقود إيران الفارسية فقط كونهم لا يستحقون سوى الموت في سبيلها مقابل حفنة من المال الإيراني والمتع الأخرى.
وبذلك أدى الشيعة العرب أدوار التبعية الدينية لإيران الفارسية ضد أوطانهم تحت ستار الانتماء للديانة الشيعية بدلا من الانتماء للأمتين العربية والإسلامية، ونجح الخميني وملحقه خامنئي في جعل إيران مغناطيسا يجذب غالبية الشيعة العرب ويتبعون لدولة فارس دينيا وقوميا على حساب أمتهم ودينهم وأوطانهم. وبذلك فإنّ حرب إيران في منطقتنا العربية, هي حرب بين العرب والفرس بدأت يوم ذي قار وتعالى غبارها في القادسية, ولا تزال مفتوحة على مصراعيها دون حسم, يصطرع فيها التاريخ بكل زخمه واختناقه, والمهم أن إيران التي تبحث عن دور لها قدمت تنازلات معروفة في ملفها النووي, ومستعدة للتنازل أكثر, وللقيام بدور أبعد من الذي تقوم به إسرائيل لتدمير المنطقة العربية, مما يحتم على السوريين مجابهة المشروع الإيراني، ويحتاج هذا بداية إلى قطع أذرع إيران من المنطقة وعلى رأسها حزب الله, ويبقى السؤال مفتوحا برسم العرب:
هل تحسم الثورة السورية صراع المصائر بين العرب والفرس ؟.
تركي المصطفى