كنت قد قرأت صباح اليوم خبرا مفاده أن الضابطة الشرعية في إعزاز بريف حلب قامت بإغلاق الطريق المؤدية الى عفرين بعد حالات عديدة من اعتقال وإذلال للسوريين المدنيين على يد قوات البي كي كي.
وقد أعادني الخبر الى ما حدث لي في تلك المدينة وأنا أعبرها متوجها الى تركيا عن طريق غير شرعي نظرا لعدم امتلاكي لجواز سفر نظامي قبل أن تقوم الحكومة التركية بإغلاق المعابر فيما بعد بوجه الجميع.
وكان الخوف هو ما دفعني الى مغادرة سوريا حاملا معي طفلاي وزوجتي وصديق لي كان يرغب بإراحة أعصابه قليلا من ضغوط الحياة في الداخل السوري الملتهب.
ففي أحد الصباحات اللعينة، تلك التي تستيقظ فيها على صوت حوامة أو برميل متفجر كانت هنالك حقيبة سفر كتلك التي يستعملها الجنود في إجازاتهم، معدة على عجل تحوي على بدل للطفلين وبعض الحاجيات البسيطة والضرورية فقد اختصرنا ما أمكن اختصاره نظرا لصعوبة الطريق ولإمكانية اضطرارنا للركض والقفز والزحف.
وصلت السيارة التي ستنقلنا الى الحدود في الساعة السابعة صباحا، ودعت من تصادف وجوده في المكان وانطلقنا..
كان السائق يرغب بحمل أكبر عدد ممكن من الركاب، وذلك يستدعي البقاء في بعض البلدات التي تقع ضمن استهداف الحوامة مستهترا بحياة الركاب الآخرين، لكن لم يطل بقاؤه وانطلق بحثا على ركاب قد يكونوا أمامه على الطريق، ولم يتردد سائقنا في أن يخرج عن الطريق لكي يوصل بعض المسافرين الى وجهات أخرى بعد أن يستأذننا بشكل شكلي وساخر لكي يدخل الى المخيمات المتناثرة على الطريق عسى أن يجد راكبا إضافيا
قبل أن نصل الى عفرين أوصانا جميعا بأننا على وشك أن نقف عند حاجز للبي ي ودي وعلينا أن نتفقد كل حواسيبنا وجوالتنا من أية أدلة تشير الى أننا منتمين الى الثورة أو أي فصيل إسلامي تجنبا لأي مشاكل.
سمعة البي يو دي الجيدة في ذلك الوقت في عدم ارتكابها لأية تجاوزات بحق السوريين دفعتني لكي لا أخذ تلك التحذيرات على محمل الجد، ومع ذلك قمت بحذف كل ملف أو صورة قد يساء فهمها من جهازي المحمول، وما أن وصلنا الى الحاجز حتى أنزلونا من السيارة وبكل احترام طلبوا مني أن يتصفحوا ملفات الصور الموجودة في جهازي.
توقفوا عند صورة لصديق لي ملتح من الجيش الحر وقال لي الجندي هل هذا داعشي؟ أجبته بالنفي ولفتُ نظره الى علم الجيش الحر خلفه في الصورة لكنه لم يقتنع واعتبر أن مهمته هنا قد انتهت وبأنه يتوجب علي أن أذهب الى مخفر المدينة وسيرافقني احد الجنود، لم تفلح معه كل الوسائل في أن يتركنا نواصل الرحلة فاضطررت الى الخضوع مرغما.
لم تكن المدينة بعيدة سوى كيلومترات قليلة، حين وصلنا الى مخفر عفرين لم نكن قلقين نظرا للطف الجنود معنا، لكنني ما أن دخلت المخفر حتى تغيرت مشاعري، جو العسكر الذي أكرهه كان واضحا في كل شيء، من اللباس الى الشعارات على الحيطان الى انعدام أي مؤشر على تعاطفهم مع الثورة أو الثوار، وما أن جلست في أحد المكاتب حتى شعرت بأنني في أحد الأفرع الأمنية في ادلب.
دخل المحقق غاضبا بلا سبب كان شابا في الثلاثينيات من عمره يحاول أن يكون عدوانيا في أسئلته السريعة والمتلاحقة مع لهجة من التنمر والاستفزاز جعلتني اصمت مفكرا بحجم الورطة التي انا بها.
ما صدمني هو ميوله الواضحة للنظام السوري في أسئلته ما أثار في داخلي نزعة قديمة وقوية لتحدي كل ما يمت للنظام بصلة ولمتانة فكرة الثورة في نفسي ووضوحها، وكان شكل التحدي في الصمت.
من أين أنت؟ الى اين أنت ذاهب؟ ولم تريد الذهاب الى تركيا؟ ماذا تعمل؟ لم لا تعمل في مؤسسات الدولة السورية؟ هل تلتقي مع المخابرات التركية؟ .. وكنت أرى أن الإجابة عن تلك الأسئلة ذل خالص، لكن بعد فترة صمت طويلة كان يبحث فيها داخل جهازي المحمول كنت انظر إليه على أنه رجل مخابرات سوري وأفكر فيما يمكن أن يحدث لو أن الأمور ساءت أكثر
قلت له:
كان لدي فكرة أفضل عن البي يو دي وتنظيمه واحترامه لحقوق الإنسان وعدم ارتكابه لأي تجاوزات بحق الشعب السوري لكنني أرى الأن أنك تتجاوز على حقوقي، أنا السوري الذي أعبر إحدى مناطق سوريا، ليس لدي مشكلة في حواجزكم طالما أن غايتها حرصكم على الأهالي، لكن أن أرى تعاطفك مع النظام السوري وهو الذي فعل مافعل بكم أنتم الأكراد، فهو أمر محير بالنسبة لي .. أنا انتمي الى ثورة السوريين ضد بشار الأسد ولن أرضى بأن تستمر عصابته بالحكم، وأتطلع الى سوريا المدنية التي يتساوى فيها جميع السوريين بلا استثناء، أما فيما يتعلق بتركيا فمشاكلكم معها لا تعنيني أنا الهارب من الموت.
أجابني بعد أن هدأت حدة عدوانيته:
أي ثورة هذه التي تتحدث عنها؟ هل تسمي مجموعة من السلفيين الجهاديين التكفيريين الذين يريدون إقامة خلافة إسلامية ولا يعترفون بأي مكون أخر من الشعب السوري ثورة؟
هذه المجموعات التي تنهب مؤسسات الدولة ودوائرها؟
أي ثورة تلك التي تذبح كل ما هو غير مسلم، إن الدولة السورية مازالت قوية ولن يسقط بشار الأسد وعليكم أن تتعلموا من تجربتنا في الحكم الذاتي، نحنا لا نغامر بشعبنا بمحاربة النظام ونرهنه لتركيا وهي التي تدعم المجموعات الإرهابية التي تدمر البلد، علينا أن نجري حوارا مع النظام ونتوصل معه الى إصلاحات مقبولة للجميع.
حين أجبته عن أي إصلاحات يمكن التوصل إليها مع هذا النظام وأي حوار يمكن أن تجريه تحت الطائرات والقذائف عاد الى غضبه وأكد أن هذا النظام أفضل من الحكومة التركية، ودخلنا في نقاش عقيم لم نصل به الى أية نتيجة .
لكن هذا النقاش أراحني قليلا فقد نسي دور المحقق فيه وعاد الى عفويته وإنسانيته كأي كردي سوري اعرفه، ورأيت فيه كل رفاقي وإخوتي الذين مازالوا موالين للأسد والذين يهربون من الحقيقة خوفا من المجهول أو حماية لبعض المصالح التي يتمسكون بها.
مرت ساعات طويلة على نقاشنا دخل فيها الكثير من الجنود الأكراد وخرجوا وأنا أفكر بمن تركتهم خارجا تحت الشمس فقلت له يجب أن تعرف أن عائلتي ورفاقي خارجا ينتظرونني، أراد يدخل نقاشا جديدا فقد تذكر دلائلا جديدة تؤكد وجهة نظره حين قرع الباب ليدخل سائقنا معتذرا منه أن انتظارهم قد طال كثيرا وأمامنا طريق طويلة، أعاد لي المحمول وأكد لي أن «الأيام القادمة» ستؤكد وجهة نظره وسنندم على تمردنا.
غادرت المكان شاردا وسؤالا واحدا يتملكني: «كم سيمر على هذه الأرض قبل أن نتوافق نحن البشر على إنسانيتنا»
كنت سعيدا وانا ارى علامات الانزعاج على وجه سائقنا بما سببته من تاخير له نكاية على تبطاؤه واختياره لهذا الطريق، قال لي ونحن خارجين من المخفر: ماذا كنتم تفعلون بالداخل يا رجل؟
قلته له شعرت بأنه كاد أن يعتقلني، هذا المحقق من الموالين للأسد وأنا اعتبر نفسي محظوظا أنني نجوت من هذا المكان.
قال لا تخف لا يستطيع أن يعتقلك
وحين استغربت من ثقته وما كان بإمكاننا أن نفعل لو أنه قرر اعتقالي أو تسليمي للنظام قال: بكل بساطة سنقوم بخطف العناصر المتواجدين على الحاجز الأول ونبادلهم بك.
وأردف: ألا تذكر كيف فك أحد العسكريين سيارته المحجوزة لديهم بخطف عدة أكراد من على الطريق واستبدلهم بها؟
في الخارج كان القلق يتملك وجه زوجتي بينما كان صديقي قد مد جسور تواصل مع بعض الباعة والشرطة على الرصيف وأخذ منهم فكرة كاملة عن إمكانية أن يقيم في عفرين ويفتتح محلا له، فاكتظاظ المدينة بخليط من كل مدن الشمال وبالأمان الكبير الذي تتمتع به المدينة (فهي لم تقصف بالطائرات ولم تقتحم من الجيش) وإمكانية العيش بها أمر مقبول جدا بدلا من السفر الى تركيا أو أوربا وراح يقنعني بذلك ووافقته على فكرته مع تخوف كبير كتمته في نفسي من «قابل الأيام».
وصلنا الى الحدود كان كرم الزيتون الذي يبعد عن السلك الشائك ما يقارب 400 م مكتظ بالعائلات والشبان الذين ينتظرون الفرصة للدخول الى تركيا، في حين كان الجنود الأتراك يطلقون بعض الطلقات المحذرة من بعض المتهورين الذين يحاولون العبور.
أحمد فرج