كان من القلائل القادمين من الجزيرة الشمالية السورية الى العاصمة دمشق, ومن الذين يحلمون بالوقوف بصلابة تشكيلية تميزه عـمّـن سـواه , فاختار مشروعه المتعدّد الحلقات , في لوحات تحت اسم ( مالفا ) ليعطي للمرأة دوراً مهماً وإبراز علاقتها بالرجل وبالمجتمع المحلي , بطريقة متحررة من القيود المعهودة .
انطلق من أرضية قروية متواضعة , خاصة بعد ان رفضت الجهات الأمنية تعيينه كمعلم صف بعد تخرجه من معهد المعلمين , لكنه وقف على أعلى كعوب الأرجل وأثبت شخصه وفنه المتميّز من خلال عمله الدؤوب طيلة النهار , حيث كان يعمل ليلاً في إخراج الصحف والمجلات بالعاصمة, ليتمكن بذلك من الابداع المستمر, ولتتصدر لوحاته جدران أكبر قاعات المعارض الفنيّة في دمشق وباقي المدن السوريّة .
لكنه في لحظة احباط مؤلمة حمل لوحاته تحت إبطه , ورماها في أقرب حاوية للقمامة , أشعل فيها النيران كما أشعل سيجارته منها , وعاد راكبا على سطح الباص الى مدينة الحسكة في رحلة تستغرق اكثر من خمسة عشر ساعة من الزمن .
وعندما رحل خارج القطر وجد الهواء الطلق الذي يناسب رئتيه واللوحة التي تسبح فيها ريشته المتحررة
أمّـا عن صفته « العالمية « التي يسعى اليها فاعتقد بأنه لايزال يدور في فلك التجارب الفنيّة المتعدّدة . يأخذ من هنا , ومن هناك, ويدمج بين مسالك المدارس واتجاهاتها ليكوّن لنفسه مدرسة فنية خاصة به – إن جاز التعبير ــ .
لكنه لم يتميز حتى الآن بما يضمن وصوله الى ذلك المقام . ولو عدنا الى رسوماته الصحفية قبل عشرين سنة لوجدناه يحاول تلمّس الكثير من المدارس والإتجاهات التجريدية البعيدة عن التعبير الذي أراد الوصول اليه .
وبشكل إجمالي نستطيع القول: بأنّ الفنان عمر حمدي فنان (شـقّ طريقه الطويل منطلقاً من درب ضيّـق زلـق ) لكنه وصل بعدها الى قمم الجبال العالية .
قال مـرّةً ــ بغرور محبب ومقبول ــ يصف نفسه : « أنا ببساطة .. واحد من أهـمّ الملـوِّنين في هـذا العصـر .. أنا قادم من سـوريّة , وجذوري ممتدّة في الضّـوء .. سـأكون آخر من يمـوت .»
لم يكن يعنيَ نفسه فقط , ولكنه ــ كما أعـتـقِــدُ ــ يقصد بلاده السورية او العربية . وكان يريد أن يكـرّر ماقاله بعض العظماء من المبدعين العالميين … لكنه بالحقيقة لم يوفّق بالتعبيرعمّا كان يقصده , مع احترامي وتشوقي له .
اللوحة المتخمرة عنده كما قال عنها الناقد الفني محمود مكي :
أن تكون في الوطن وخارجه في آنٍ معاً ، لتصنَع عملاً فنياً، له قيمته الحضاريّة , تحتضن لوحة عمر حمدي الجديدة بشقيها الانطباعي والتجريدي، عالماً ساحراً من الألوان القوية، المنفعلة، والصاخبة، والصارخة بصوتٍ عالٍ ، فالحارّ يتجاور فيها مع البارد، تارة يشرد الأول في جسد الثاني، فيوشيه بإضاءات هادئة، وتارة أخرى، يتحاور اللّونان بقوة تثير المتلقي وتستفزه، كأن يُدخِـل الأسود على البرتقالي، أو الأبيض على الأسود والأزرق الداكن، أو الأصفر على الأبيض والأسود.. أو تتعارك الألوان الحارة والباردة فوق بياض اللوحة، لتقدم لنا في النهاية، حالة انفعالية مفعمة بالقلق والثورة والتشنج، ما يؤكد أن عمر حمدي يجد في سطح لوحته، متنفساً لما يعتمل داخله من أحاسيس وعواطف وهواجس وإرهاصات كثيرة ومتناقضة، مردّها حياته الشخصية الطافحة بالمعاناة والقلق والتوتر المتعدد الأشكال والأسباب .
بينما يقول عنه مواطنه عنايت عطار :
انه فعلا استطاع اعادة جريان الدم في الانطباعية التي كانت على وشك الزوال – لقد قالها الشاعر الفرنسي جاك بيار وهو يطّـلع على اعمال عمر حمدي في مجلد بحوزتي والذي كان الفنان قد اهداني إيّاه وانا شخصيا كمهتم باللون , بحثا وأداء انه بكل بساطة يحيل الاشياء الى خزف وكريستال .
والجديد الجديد في اعماله هو اضاءة الظلال, بحيث اذا تمعنّا في الالوان الغامقة في اعماله تعطينا انعكاسات متوقّـدة كما الالوان الفاتحة ,, انه يحيل الارض الموات الى حدائق غناءة حتى لو افرغ كلّ حزنه فيها – وله الكثير من هذا القبيل – فلابد ان يكون لحزنه توقد الروح .
ولقد أنصفه الزميل أديب مخزوم عندما قال :
إن مرحلة عمر حمدي ــ مالفا الأولى ــ هي الأهم ، لارتباطها بعناصر بيئته ، ولأنها تركت تأثيرات واضحة على العديد من فناني الحسكة ، وهي تؤكد موهبته النادرة في الرسم والتلوين معاً ، أما أعماله التي قدمها في بلاد الاغتراب فلم تكن الا صدى لما هو مكرس ومطروح ومألوف في عواصم الفن الكبرى ، وبالتالي فهي تطرح اشكاليات والتباسات لا تنتهي ، ومن ناحية أخرى نجيب محفوظ كاتب عالمي لأن العالم عرف الرواية العربية من خلال أعماله ، وعمر الشريف عالمي لأن أسمه كان يوضع، في أفيشات الأفلام الأجنبية ، بجانب اسماء كبار نجوم هوليوود وبنفس الحجم ….
… أما عن وصف عمر حمدي بالعالمي فيطرح اشكالية كبرى لم يتم التوافق عليها ، وإنّ وجود لوحاته في متاحف النمسا وغيرها لا يكفي، لانه أصبح يحمل الجنسية ــ الثانية ــ النمساوية واعماله معروضة بجانب أعمال الفنانين النمساويين المعاصرين ، وهؤلاء ليسوا عالميين ، لأنهم تابعين لمدرسة باريس ، وليسوا متبوعين ..
عمر حمدي فنان كبير وفذ ولكنه ليس عالمياً، ولا يوجد فنان تشكيلي سوري عالمي حتى اليوم . ولازلـنـا ننتـظــر .
عبد الرزاق كنجو