منذ أن استولى عسكر البعث على السلطة في سورية بطريقة انقلابية وهي الآلية التي كانت متبعة حينها، وخلال فترة هيمنته فيما بعد على الحياة السياسية لم يعمل على إجراء أيّة تحولات إيجابية عميقة تذكر له على بنية المجتمع السوري على أيّ من الصعد، بل على العكس فعلى الصعيد الاقتصاديّ وهو الأهم نظراً لما يرافقه من تحولات في المستويات الأخرى وتحت شعار (القضاء على الإقطاع) تمّ قطع صيرورة التطوّر الطبيعيّ والتي كانت تتمثّل في إمكانية تحوّل التشكيلة الاقتصاديّة القائمة على نظام الإقطاع حينها إلى تشكيلة بديلة تحاكي التشكيلة البرجوازيّة الأوربيّة التي كانت قد أنجزت ثورتها الصناعيّة، تمّ قطع هذه الصيرورة لصالح إقطاعيّة الدولة التي رفدتها فئات اجتماعيّة جديدة غالب مكوّناتها من الطبقة الفقيرة، حوت بين صفوفها عدداً ليس قليلاً من الضباط والعسكر فيما يشبه مقولة « مصلحتك بالولاء التام للحزب ومبادئه» وهكذا تمّ تسييد حالة ثقافية واحدية تتماشى مع أهداف السلطة والعسكر، وتمّ عسكرة الثقافة بمعنى خدمتها لأهداف العسكر، الأمر الذي أدّى إلى تهميش الثقافة بصفتها قيمة معرفيّة محايدة فلا حياديّة ثقافيّة في مجتمعات الاستبداد، والكلّ بما فيها الثقافة، سخّرا لخدمة حزب ليس لديه رؤية ثقافيّة منطلقة من ممكنات المنطقة سواء في منطلقاته النظرية أو فيما طرحه من شعارات سياسيّة فيها الكثير من اللبس بمعناه الثقافيّ وحتّى السياسيّ، وعليه فقد سادت في المجتمع حالة ثقافيّة أحاديّة ومتحزّبة.
ومع وصول حافظ الأسد إلى السلطة بما ادعاه أنّها حركة تصحيحية، والتي لم تطرح تصحيح أيّ من المفاهيم الثقافيّة والسياسيّة في صلب أهداف ومنطلقات الحزب ترافق ذلك مع تصدير ثقافة الإسلام السياسيّ المؤمن بالعنف كطريق للوصول إلى السلطة بفضل طفرت البترودولار، وتمّ الصدام على أشدّه بين ثقافتين كلاهما أحاديّة استبداديّة.
ممّا أعطى ذريعة لحافظ الأسد ليدخل البلد بمرحلة قمعيّة سوداء، عنوانها سيطرت الأجهزة الأمنيّة وبشكل محكم على كلّ مناحي الحياة، وأهمّها الثقافة وتسخيرها لخدمة سلطة الاستبداد، والتي لم تعد هنا سلطة حزب بعد أن تمّ إقصاء الحزب بمعناه السياسيّ وتهميشه لصالح ثقافة اختزاليّة متردّية تماهي بين الوطن والقائد الفرد، وتمّ الأمر الذي استوجب تقليم أظفار الثقافة كقيمة معرفيّة إنسانيّة محايدة ومستقلّة عن السياسة بكلّ أشكالها وذلك بالتطبيق على أيّ مشروع ثقافيّ محايد.
ولم يكن عهد الوريث أفضل حالاً بالنسبة للمسألة الثقافيّة وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد تمّ إصدار قوائم لأسماء الكثير من المثقّفين وعمّمت على المراكز الثقافيّة وذلك لعدم استضافتهم في أيّ من أنشطتها، هذا بالإضافة إلى أنّه كان يتوجّب على المدير والعاملين في أيّ مركز ثقافيّ أن يكونوا أعضاء في حزب البعث العربي الاشتراكي، وككلّ مجتمعات الاستبداد تمّ وأد وموت الثقافة بمعناها المعرفيّ لصالح ثقافة استبداديّة قوامها المحسوبيّات والشللية والتزلّف والخضوع لمشيئة السلطة وأجهزتها الأمنيّة ابتداء باتّحاد الكتّاب وشركات الإنتاج التلفزيونيّة ونقابة الفنّانين وما تبقّى من مؤسّسات أخرى والتي من المفترض أن تكون حياديّة وذات استقلاليّة تامّة عن أيّ خطّ سياسيّ ومع موت الثقافة بمعناها المعرفيّ المحايد كان من البديهي أن تملأ الفراغ ثقافة استبداد قائمة على تخوين لكلّ مثقّف معارض، ولو بالكلمة وتخويف كلّ مكوّنات المجتمع السوريّ من بعضها.
ولذلك كان من الطبيعيّ ومنذ الأيّام الأولى لانطلاق الثورة السوريّة أن يكون العنف هو سيّد الموقف وأن تنفجر ثقافة الموت ولم يكن ذلك مستغرباً من النظام فقتل المعترض هو طبع وتطبّع المستبدّ، ولكن اللافت للنظر أنّ ثقافة الموت كانت هي الثقافة السائدة لدى أغلب كتائب المعارضة المسلّحة حتّى فيما بينها، وحتّى على أشخاص من المدنيين كان يتمّ قتلهم لأتفه الشبهات ودون أيّة محاكمة.
ولم يقتصر فعل القتل والموت على هذا وذاك، بل كان يتمّ القتل أحياناً من قبل عصابات وقطّاع الطرق غايتهم المال وفقط، حتّى ولو كان المبلغ ضئيلاً .
ومات الكثير تحت غاية ثأريّة وشخصية وازداد العنف أكثر ببراميل بارود غايتها القتل وفقط، القتل والانتقام، تسقط على المدن ليلاً ونهاراً بذريعتي وجود مقرّات مع المعرفة التامّة أنه لا حيلة للمدنيين على هذه المقرّات، إن وجدت أصلاً، وجلّ الضحايا مدنيين، بالمقابل قصف على المدنيين من الكتائب المسلّحة بحجة وجود مقرّات للنظام وشبيحته والضحايا جلّهم من المدنيين وكأنّ ثقافة الموت كانت في قمقم وانفجرت وغدت سيّدة الموقف، موت بالقصف موت موت موت بالقصف بالغازات السامّة وتحت التعذيب، والموت جوعاً وراحت بعض التنظيمات الإرهابيّة تتفنّن في ابتكار طرق جديدة للموت بالحرق أو الغرق بالماء، وبتفجير الرأس وغدت ثقافة الموت عنوان المرحلة وبدأ الناس يعتادونها وأصبحت من طبائع يوميّاتهم، ولم يعد يهمّ أن يدفنوا موتاهم بمراسم تليق بهم وفي كثير من الأحيان لا يجدون إلّا مزقاً من أجسادهم.
أسعد شلاش