عقد مهند الشاب في بداية الثلاثينات، الأمل على سنتين، عمل فيهما على مشروع مفصّل للاستفادة من طاقة الرياح في منطقته، المشروع يوفر الكثير من الطاقة الكهربائية «النظيفة» والمتوفرة بكثرة في تلك المنطقة. لكن تم رفض المشروع عشرات المرات ومن جهات عديدة تقدم إليها «مهند».
الشاب حاول ترتيب معظم الجهات التي رفضت له مشروعه وتعاملت معه كشيء سخيف ، وابتدأ بعائلته، والديه، إخوته، أقاربه، اعتبروا ألَّا شيئاً سيقدمه «مهند» إلى العالم وبلده سوريا سيكون ذا أهمية ، والأهمية الوحيدة التي يمكن أن يُستفاد من المشروع هو توفير ورق «لف السندويش».
وأتى في ترتيب «مهند» بعد العائلة، المجتمع من حوله، واعتبر أن أكثر ما كان محبطاً هو النظرة إليه كشخص «مضيع للوقت»، وبالتالي كان ممكناً أن يساهم في جني القليل من المال بعد تخرجه بدل العمل على «شيء» ليس فيه أي معنى، طالما أن الجهات الحكومية سترفض حكماً أي مشروع ليس معه واسطة.
وبعدها في قائمة الترتيب أتى النظام الحكومي ككل والبيروقراطية التي تعني عدم القدرة على التطور أو التفكير فيه. واصطدم بعراقيل حكومية ليس لها بداية، وتعرض أيضاً لمساءلات أمنية عديدة لم تفضي إلا «لشنشطته» وتعبه، وتفكيره في ألَّا يكون قد ارتكب فعلاً إجرامياً ما.
لكنه عندما قرر أن يسافر خارج بلده بحكم الحرب لاحظ أمراً مهماً للغاية لم يكن يلاحظه من قبل، ألا وهو ازدياد عدد أصحاب القرار المستبدين في بلده رغم أن معظمهم لا يمتلك قراراً حتى على مستواه الشخصي.
النظام أسس مرحلة تعليمية تمييزية
لا يختلف شخصان في سوريا على أن النظام الاستبدادي القائم منذ أربعين عاماً و أكثر لم يكن جاهزاً لاستيعاب أي أفكارٍ أو اقتراحاتٍ أو مشاريع تهدف إلى تطوير البلد عبر أبنائه، لا بل كان يسعى إلى تهميشها وتعريض صاحبها للكثير من العقبات حتى ييأس ويهاجر بأفكاره إلى عالم آخر يستطيع الاستفادة منها.
والأمثلة كثيرة عن حالات نفي عقول، واعتقال «أصحاب الرأي» كجزء من رفضه لأي شخص مخالف أو مجدد.
إلا أن الكارثة التي حققها النظام بسياسته الإقصائية والاستبدادية، هي تربية المجتمع أيضاً على هذه السياسة، وجعله يرفض الاختلاف أو الخروج عن المألوف مهما كان، ومع مرور الزمن انتشر وباء «العصا والجزرة» كروتين قاتل، الابتعاد عنه أو التمايز يعني الكفر بإله الرتابة والنظام الجديد.
«مع زوال النظام، المجتمع أيضاً بحاجة إلى تربية» لا ينفك مفكرون سوريون ثوريون كثر يرددون هذه العبارة نحو ثورة اجتماعية أيضاً كجزء من الثورة عموماً.
التربية بدورها تحتاج إلى قرار، والقرار ينبغي أن يكون ملزماً، فاعتماد سياسة تعليمية مثلاً كالتالي اعتمدها النظام هو تكريس لمبادئه وصولاً إلى مجتمع مكرر لا يختلف عن سابقه.
في أحد كتب القراءة للصفوف الإبتدائية في سوريا، كتب بما معناه على لسان أحمد الطفل «قدم عمي لزيارتنا بينما كان والداي خارج المنزل، فقمت أنا باستقباله، بينما ذهبت رباب إلى المطبخ لتعد الشاي».
الأدوار منذ السنوات الدراسية الأولى مرتبة بين الذكر والأنثى «الذكر في الواجهة والأنثى في المطبخ»، هو ما يعزز الإحساس بالتميز لدى الذكر منذ الصغر وبالتالي الاستبداد بالانثى أياً كانت. والسؤال هو «كيف حال التمييز على أساس الجنس في سوريا الآن؟».
أمثلة كثيرة وعديدة على ما تقدمه مناهجنا إلى الطالب، تضع أسئلة أكثر عن مدى جديتها ومواجهتها للمواضيع الحساسة التي سيعرفها الطالب أو الطفل آجلاً أم عاجلاً وستبني شخصيته «كمسألة الطائفة مثلاً».
من الغالب بين كفة المادة وكفة العلم؟
يؤسس الاستبداد والقمع أيضاً إلى مرحلة من التخلف، يصبح معها التميز ليس على مستوى الكفاءات أو الخبرات وإنما على مستوى القرب من المستبد، وهو ما كان جلياً في سوريا.
الطائفة استخدمت للتقرب من النظام، القمع والقتل استخدم أيضاً للتقرب من النظام والحصول على امتيازات، والمال أيضاً استخدم للتقرب منه. وفي كل الأحوال كان يتم تعزيز مفاهيم سطحية متخلفة على مفاهيم أخرى توفر العدالة والمساواة و سلطة القانون فوق أي اعتبار.
ثم تحول الكثير من أبناء المجتمع السوري للسؤال عن جدوى التعليم مثلاً، إن كان ابن صاحب نفوذٍ ما غير متعلمٍ سيحصل على ما هو أعلى من امتيازات المتعلمين.
ضرورة التعليم أيضاً، إن كان السعي الأساسي في معظم حياة المتعلمين سيكون نحو إيجاد عمل، وتوفير سكن، ثم اللهث وراء لقمة العيش، والموت فجأة دون أن يتم اكتشاف شيء من معاني الحياة الكثيرة.
الصراع في كل مرة بين مادية الحياة و أهمية الوعي والتعليم كان ينتهي بغلبة الجانب المادي، ثم سؤال هؤلاء المتعلمين ، المثقفين الصادقين، ونخب المجتمع الحقيقية، هل سيكون هنالك ثورة ما ستعيد الحياة إلى طريقها الصحيح، وبكل تأكيد الجواب مازال قيد الدراسة.
حازم حسون