رائد ومؤسّس المسرح الغنائيّ في بلاد الشام ومصر «أحمد أبو خليل القبّاني» (1833 – 1903)، والذي قدّم نحو 40 مسرحيّة غنائيّة في مسقط رأسه دمشق، ثمّ غادر إلى مصر وذاع صيته أكثر حين عرض «أنس الجليس» عام 1884، فأثرى الحياة الفنّية هناك، وصار مدرسة كان من تلامذتها الشيخ «سلامة حجازي»، واستمرّت مع بدايات القرن العشرين عبر «سيّد درويش» وغيره، حتّى وصلت في لبنان على يد الرحابنة في النصف الثاني من القرن الماضي إلى قمّة جميلة.
أمّا في سورية فلم يقم لهذا النوع من المسرح قائمة مذ سافر «القبّاني»، ومع أنّ الحياة الثقافيّة شهدت نهوضاً فترة الاستقلال، كما ظهرت حركة مسرحيّة نهاية الستّينات في مختلف المحافظات، إلّا أنّ المسارح لم تحظَ بعروض غنائيّة، ورغم اكتساح الأفلام الغنائيّة المصريّة لدور العرض السينمائيّ والإقبال الجماهيريّ الكبير عليها، فقد اكتفت بعض العروض المسرحيّة بإدخال أغنية ما بشكل عرَضيّ، أو تلحين جزء من الحوار (مثل مسرحيّات دريد لحّام) التي لا يمكن اعتبارها من المسرح الغنائيّ.
جاء إيجاد منظّمة «طلائع البعث» عام 1974، وهيمنتها على عالم الطفل في سورية، ضربة استباقيّة لآفاق الإبداع وخنقاً للمواهب التي قد تنمو خارج قالب النظام، فالمنظّمة نصّبت أجهزتها وليّة على مستقبلنا، وفرضت سيطرتا بحجّة النهوض بفنون الطفل، حين قالت في تعريفها عن مهمّاتها: «يعدّ مسرح وأغنية الطفل أحد الميادين التي كرّست إمكانيّات الجيل للنهوض به»، وخصّصت هذه المنظّمة، التي نقلها «حافظ أسد» عن الديكتاتوريّات الاشتراكيّة، لهذا «النشاط» أسبوعاً في السنة، أطلقت عليه تسمية «المهرجان القطريّ السنويّ» تقدّم فيه «النشاطات المسرحيّة والغنائيّة والشعبيّة».
من خلال هذا «المهرجان» تمّ تكريس نوع من العروض المتطابقة تقريباً والمستنسخة من بعضها شكلاً ومضموناً، فهي مدائح لـ « الأب القائد» أو «منجزاته وقيمه و..» وحتّى لو كان موضوع المسرحيّة عن الصدق فيُستشهد بأقوال «القائد». ومن ناحية الشكل، ترى الديكور ذاته في مجمل العروض بمفرداته وألوانه، وكذلك الأمر في اللباس.
جميع هذه العروض كانت غنائيّة، وبأسلوب واحد في الأداء، تلك النبرة الصوتيّة الموحّدة وتلك التلويحات والتأشيرات بالأيدي، والرقصات والدبكات والأغنيات؛ واللافت أنّ الصوت مسجّل في العروض كافّة، وأنّ التلفزيون يصوّرها ليعرضها ثانية وثالثة خلال برامج الأطفال.
سيطر طَغام لعشرات السنين على هذا الفنّ – كما في كلّ مناحي الحياة – فكانوا يقيمون المهرجان لينهشوا الأموال ويشيعوا الفساد ويقولبوا عقول الأطفال في الأحذية الصينيّة، وكانت تلك المنظّمة واحدة من تلك الأدوات؛ فما هي بدائلها اليوم للطفل السوريّ؟
منظّمات كثيرة تتعامل في شّؤون الأطفال السوريّين، منها أمميّة للطفولة (يونيسيف) أو للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، وأخرى تابعة لدول أو مجتمع مدنيّ؛ لجميع تلك المنظّمات أجنداتها.
بعيداً عن نظريّة المؤامرة، نريد أن نتساءل: كيف نواجه هذا الضخّ بخاصّة في مجالات المعرفة والثقافة والفنون للطفل السوريّ، إذا لم يكُ لدينا في ثقافة المعارضة رؤية واضحة وخطّة وأدوات للمواجهة؟
وتحديداً أكثر، ما هو المطلوب لتكوين نواة تُعنى بالطفل ثقافيّاً وبأسلوب عمليّ؟
لعلّ مسرح الطفل بعمومه يكوّن المؤسّسة الثقافيّة الفنّيّة التي تؤدّي أكثر من وظيفة، فهو حاجة أوّلاً؛ وبشكل أدقّ، ربّما كان المسرح الغنائيّ الحقيقيّ المفقود من أكثر من مائة عام، أو المشوّه بفعل ما ناله خلال العقود الأربعة الأخيرة، بداية لطريق ضروريّة ثانياً.
يبقى أن نبدأ بتجارب فنيّة – علميّة، يساهم فيها المختصّون السوريّون من فنّانين وخبراء في شأن الطفل، بإزالة عوالق «طلائع البعث» كاستهلال، وهم بذلك يحرّرون مواهب أطفالنا، وأن تجرى هذه التجارب في البيئات المختلفة التي نعيش فيها، لتُخلق حكاياتنا وأغنياتنا الجديدة، بمنأى عن جرائم فُسّاد الماضي، أو إحباط الحاضر.
قد لا يوجد الآن بين السوريّين «قبّاني»، لكنّه كامن فينا وبيننا لو عملنا معاً، مستهدِفين نور الحرّيّة الآتي من فنّ جديد.
ومن نافل القول: إنّ بناء الغد يأتي بالعمل مع طفل اليوم.
بشار فستق