كان قدرا للثورة أن تبدأ مع الأطفال وأن تدور عجلتها بهم حتى أصبحوا وقودها، بدءاً من درعا ومرورا بجمعة أطفال الحرية وليس انتهاءا بآلاف الشهداء والجرحى والمشردين والأيتام منهم، ومع استمرار الثورة بعامها الخامس كانت حياة الملايين من الأطفال تدمرت وتعرض جيل كامل لخطر فقدانه الى الأبد.
ليس القتل والتهجير والحرمان من التعليم وحتى الاعتداءات الجسدية والجنسية من يلاحق الطفولة وينهي معانيها، فالتجنيد العسكري أيضاً وغسيل الأدمغة يضاف إلى تلك التجاوزات بحق الطفولة، وحيث يُعتبر الطفل مشروعا استثماريا ناجحا، بإمكان أي جهة استغلاله فكريا وتجنيده في ظل الغياب الشبه تام لدور المؤسسات التعليمية، وفي ظل صراع ايديولوجي ومناطقي خفي بدأت معالمه ترتسم بشكل واضح مؤخرا، وربما أيضا استغلال الحاجة المادية لذوي الأطفال، لتستبدل قيم الطفولة والبراءة بالبندقية، ولتبدأ معسكرات التجنيد بالانتشار بشكل موسع وعلني.
وانطلاقا من ضخامة حجم الاستثمار في عقول الأطفال، استندت أطراف النزاع جميعها على قيم الواجب الوطني والديني في البناء الايديولوجي لمعسكراتها، فمشروع كبير كهذا يتطلب شعارات رنانة غير قابلة للنقاش، تخرج كل من يخالفها من بوتقة الوطن أو الدين، فابتداء من معسكرات أشبال الأسد التي أقامتها قوات النظام لاستقطاب الأطفال في المناطق التي تسيطر عليها، وليس انتهاء بمعسكرات أشبال الخلافة والتوحيد، كان قدرا على الطفل السوري أن ترتسم معاناته بطابع وطني مقدس، يرسم مصيرا مجهولا بدايته الموت وخاتمته الموت أيضا، ولا يمت بأي صلة لا للطفولة ولا للمجتمع المدني.
الطفل(أحمد، ق) يبلغ من العمر 16 عاما من حي عين اللوزة بمدينة حماة، كان له تجربة قاسية في هذه المعسكرات، وفي حديث خاص لمجلة زيتون أفاد أحمد:
« في عام 2014، أوقفني حاجز الاتحاد العمالي بحي المحطة بمدينة حماة، عناصر الحاجز بدأوا بالتفتيش والتدقيق، وسرعان ما بادروا بالمزاح معي لطمأنتني، بعدها عرضوا علي الانضمام إلى صفوفهم، الملازم أبو جعفر المسؤول عن الحاجز بدأ يسرد لي قصص الوطنية و التضحية، وأنه يتوجب علي الالتحاق بهم دفاعا عن الوطن، وأشار أيضا إلى أن قامتي الطويلة و جسدي الضخم نوعا ما يؤهلني لأكون مقاتلا في الصفوف الأولى، وأردف ذلك بعرض مغري بمرتب شهري يصل حتى 15 ألف ليرة سورية شهريا، وهو مبلغ يعادل تماما مرتب والدي، ترددت بداية لكني سرعان ماقبلت انطلاقا من خوفي من رفض طلباتهم المتكررة و طمعا مني في مساعدة والدي من خلال مرتبي، بعد شهر من الانضمام إليهم تلقينا مهمة بالتحرك إلى سهل الغاب بحماة، تم استهداف الرتل الذي كنت ضمنه من قبل الثوار باستخدام الألغام، قتل عدة عناصر من الرتل و أصبت أنا بجروح خطيرة تم على اثرها بتر ساقي اليمنى، لأعود إلى منزلي طريح الفراش لعدة أشهر دون الحصول على أي تعويض من الجيش لقاء خدمتي»
بناء على تجربة أحمد وقصته التي تبين حجم الاستغلال الممنهج للطفولة، يتضح لنا أن الطفل بلغة البندقية ليس إلا رقما، ولعنة الحرب مولعة بالأرقام التي لا تنتهي.
وبالانتقال إلى تجربة أخرى بنيت على الواجب الديني المقدس، ذاك الواجب الذي أساء أصحابه فهم أبسط تجارب الانسانية لينقلوا الدين بغلاف ملائكي يحتم على الجميع الانصياع دون أي تفكير، وليكون التكفير هو الايديولوجيا البعثية المناهضة لأي محاولة للتفكير.
الطفل (محمود. ع) من قرية الدانا بريف ادلب يبلغ من العمر 14 عام، يروي لنا أيضا قصة اندماجه بمعسكر شرعي وتدريبي أقامته احدى الجماعات الاسلامية المسلحة في قرية الدانا، يفيد محمود لمجلة زيتون:
« أرسلني والدي للإلتحاق بمعسكر شرعي وتدريبي، فالمدارس في القرية مغلقة منذ سنوات، إلتحقت بالمعسكر لثلاث شهور، في المعسكر يوجد عدة شيوخ، يقومون بتدريسنا بشكل يومي عن الجهاد والقتال، ويوزعون علينا هدايا للمتفوقين، الكثير من الأطفال الملتحقين في الدورة لايفهمون ماذا يلقي عليهم الشيخ، فجميع الخطب تقريبا تتحدث عن القتال والحرب، في مدرستي كنا ندرس الرسم والرياضيات والقراءة والقصة، هنا في هذا المعسكر لاتوجد هذه المواد، فقط هناك الحديث عن القتال»
الطفل محمود مازال في المعسكر، يتلقى بشكل يومي دروس حول واجب القتال والبندقية، ومن كلمات محمود البريئة التي صاغتها طفولته السليبة، يتضح لنا بشكل كبير احساس الطفل محمود بالغرابة، وبأن هذا المكان ليس له، أو أنه وجد فيه بالغلط، كلمات محمود قدمت أسئلة كثيرة بدل الإجابة.
وعلىمايبدو أن أسئلة محمود لن تجد إجاباتها عند أطراف النزاع، وأن الموت الجسدي والفكري هو المصير المنتظر لفلذة أكبادنا التي علقنا عليها آمالنا في وطن سليب.
دانيا معلوف