لقد اعتاد الإنسان ومنذ بدء الخليقة على أن يهتم بكل شيء من حوله، يراقب مكونات الطبيعة وعناصر الحياة المختلفة من سهول وجبال ونبات وأنهار وبحار، بينما يسرح بنظره ليلاً فيراقب شكل القمر والنجوم وشتى أنواع الكواكب.
ولم يركن أو يرتضي لنفسه بأن يكون «مشاهداً ومراقبا» فقط لكل مايراه بل أًراد أن يكون فاعلاً ومطوّراً لكثيرٍ من عناصر الحياة التي تحيط به ابتداء بمسكنه وملبسه وأدوات صيده وطعامه.
لذلك وجدناه يرسم على جدران الكهوف والمغاور التي يسكنها موضوعات مستمدة من الحياة المحيطة به ويجعل منها زينة مرسومة وملوّنة على تلك الجدران كي لا تبقى صماء بدون روح ولتضفيَ على المكان رونقاً ولتحكي قصص الغزلان والحيوانات البريّة التي يطاردها ليصطادها ويقتات من لحومها.
كما كان يهتم يتصنيع الآنية الفخارية بأشكال وحجوم متعددة من الغضار الطريّ قبل أن يشويها لإكسانها الصلابة والمتانة , مستخدماً مواهبه الفنية «البدائية» لوضع النقوش والزخارف التي تضفي عليها بهاءً ورونقاً.
كما أنه وبعد أن اكتشف الألوان وطريقة الحصول على الأصبغة النباتية راح يزركش لباس النساء من حوله , ويصبغ الخيوط الصوفية والقطنية التي اعتاد على نسجها , فوجد فيها متعة كبيرة عندما راح ينسج الخيوط المتعددة الألوان بشكل متقاطع , مما جعله دائم البحث والتجربة على تجاور هذه الخيوط الملونة أو تكرارها وتقاطعها مع الألوان الأخرى.
كان يرصف أعواد القصب المستقيمة ويصنع منها سواتراً وزرابيـاً منخفضة الإرتفاع لتحجز بين أقسام الخيام أو البيوت المنسوجة من شعر الماعز أو من أوبار الإبل ومن خيوط الألياف الزراعية المتعددة كالقطن الأبيض , وكان يحرص على إدخال مساحاتٍ متجاورةٍ ومتدرجةٍ في الألوان محققاً بذلك (وحداتٍ هندسيةٍ) متكررةٍ تتابعها عين الناظر بشكل لا إرادي من بداية النسيج حتى نهايته , مستفيدا من هندسة النحل في بناء خلاياه السداسية الأضلاع أو من العنكبوت الذي يبني خيوطه بمقاسات هندسية متقنة.
وانطلاقا من ذلك فلقد عمد إنساننا البدائي والبدوي فيما بعد على استخدام خيط طويل مغزول يمرره على مساميرٍ مرصوفةٍ بعنايةٍ وبتباعدٍ موحّد فيما بينها على محيط مربع أو مستطيل، أو حتى على الشكل الدائري.. هذا الخيط يمرره بشكل عمودي متقاطع مع الآفقي، أوبشكلٍ مائلٍ بزاوية موحدة، مرةً للأعلى وأخرى للأسفل، ويكرر ذات الحركة في الوضع الأفقي متلاعيا بزوايا الميول وتواتر الذهاب والإياب للخيط , ليحصل بعد ذلك على أشكال هندسية منسوجةٍ بشكل لافتٍ وبديع , خاصة عندما تكون الخيوط متعددة في ألوانها وبسماكات مختلفة في مقاطعها.
لذلك لاغرابة إن أطلقنا بعد ذلك على فنون الزّخرفة العربية اصطلاح «الخيط العربي». والذي تطور فيما بعد وتمت تسميته عالميا بـ (فنون الأرابيسك ) نسبة للموطن الأصلي لهذا الفن العجيب /arabesque /.
ولما كان الانسان العربي ينشد الجمال في كافة مراحل معيشته فقد أضفى هذه المكونات الزخرفية على كل مايحيط به، ابتداء بلباسه وهندسة مسكنه والاعتماد على الزحرفة الهندسية في تزيين واجهة بيوته أو المساجد وقبابها، والمعابد والمضافات التي يجتمع فيها عليّة القوم. كما أنه اعتمد على تحوير الأشكال النباتية لأستنباط وحدات زخرفية لينة ومنحنية الخطوط بعد ان كانت محصورة بالخطوط المستقيمة والزوايا المختلفة.
ونتيجة لابتعاد الفنون العربية عن تجسيد الأشكال البشرية والحيوانية لأسباب نهى عنها الدينالإسلامي بعد تحريمه عبادة الأصنام التي كانت عادة سائدة في العهود الجاهلية، لهذا وجدنا أنّ الفنون العربية تتوجه نحو الزخرفة بأنواعها لإغناء الحياة المحيطة وإكسابها مسحة جمالية تميزها عن فنون بقية الشعوب الأخرى. وأصبحت فنونهم ترتدي طابعا زخرفيا شرقياً متميزاً يكرس ماسبق وأن أشرنا على تسميته (الأرابيسك).
هذا الفن الذي أصبحنا نشاهده بشكل متميز على واجاهت الأبنية أو في تزيين قباب المساجد الكبرى بوحدات زخرفية مذهلة في تكوينها وترابطها واتزان ألوانها. أو مانشاهده على الأبواب الخشبية المنفذة بإتقان بواسطة شرائح خشبية وقضبان بارزة يقف الناظر قبالتها مشدوهاً ومفتخراً.
انها الزخرفة العربية التي تطورت كثيراً حتى وصلت الى ماوصلنا اليه من فنون نعتز بها.
عبد الرزاق كنجو