يبدو المسرح السوري الرديف للثورة السورية، ثورة الكرامة، أشبه ما يكون بمسرح الدراما، حيث يختلط فيها الضحك بالبكاء، حد الجنون، ولكن المؤسف أنه يشوبه انقلاب مؤقت، على القيم والمبادئ والمفاهيم التي خرجت من أجلها الثورة. وهذا الخلط المؤقت لا ينبغي أن يكون معياراً يراه البعض مخرجاً لتورطه في مساندتها، اذ يغلب في الآونة الأخيرة أن تشاهد نكوصاً عن الانحياز للثورة لانحراف النتيجة عن المراد.
لاريب ولا شك أن الثورة بدأت ولا تزال محافظة على خط اسقاط عصابة الأسد التي رهنت البلاد والعباد لمشيئة السلطة المطلقة، ولكن يبدو أن الأداة قد تغيرت من التنوع الشعبي الذي كان سائداً للون يبدو قاتماً لوحده، ولا بد من الإقرار أن هناك سلطويات صغيرة مغرورة، بدأت بالظهور في مرحلة الفوضى التي ينبغي أنها تسبق السقوط، أفرط في تشجيع هذه السلطويات والأنوات، ألقاب زائفة وشهادات مسلوقة سلقاً، قام باستحداثها صيادي مراكز مجتمع مدني، يهوى ويعشق العمل عن بعد، وتهوى استخدام الأدوية الهرمونية، التي تعطي لفراخ المداجن هرمونات، فتظهر بأحجامها وأشكالها وألقابها، وكأنها تمتلك الخبرة والقدرة اللازمتين، والكافيتين، لإدارة شؤون دولة موشكة على الانهيار لا سمح الله.
قد يتبادر للذهن مباشرة أن ما سبق من وصف هو سلبية مقصود منها تكسير أجنحة توشك على الإقلاع باتجاه الطيران، وهذا لعمري فرية يراد بها الهروب من الجواب بموضوعية على منظمات المجتمع المدني التي باتت تتكاثر كما الفطور، ويلاحظ في منتسبيها وعاقدي أصول العمل فيها أنهم مجهولي الخلفيات ويقيمون «دويرات» في أماكن خارج تراب الأرض السورية، ليصنعوا وهماً جديداً للسوريين، يستنزفون به ما يقدم اليهم، من مساعدات ومنح، ووقتاً هم أجدر بالاستفادة منه في الخوض في أمورهم المصيرية وبشكل واقعي ومباشر، بدلاً عن الخوض بتوافه أمور بعيدة كل البعد عن صناعة حامل مفيد لواقع مرير وبرؤى لا تمت للواقع بصلة، وحسب ما يتماشى مع عقلية الداعم لتلك الدويرة أو نظرته الخاصة بما ينبغي أن تخلص اليه الأمور.
لا يمكن قطعاً الطعن بالنيات، ولكن غالبية النتائج المرجوة من الدورات المقامة خارج الأرض السورية هي مخيبة للآمال، وترسم أفقاً ضيقاً جداً، يستفيد منه قناصي تلك الدورات، وحسب دوائرهم الضيقة أيضاً.
إذ بات من الملاحظ الغالب أن حاضري هذه الدورات هي أسماء معينة تتداول فيما بينها خارطة الدورات وبكل وقاحة لتتبادل فيما بينها المقاعد والشواغر وتتصل في حال اللزوم والاضطرار بأقاربها، ليحضروا رغم عدم الاختصاص وعدم وجود الصلة لدى هؤلاء، ليسدوا فراغاً محتملاً لانشغال آخرين بدويرات أكثر دسماً!!
نسمع الكثير عن دويرات لصناعة القادة! وأخرى لصناعة العدالة الانتقالية! وأخرى عن صناعة المجتمع المدني! ودويرات ودويرات عن اللحمة في النسيج الوطني! وغالبية تلك الدويرات لا تزال خارج نطاق الحدث بل وربما يُراد لها أن تظل كذلك.
فمن النادر أن سمعت عن نشطاء ممن خضعوا لدويرة عن السلم الأهلي أنهم قد قاموا بزيارة عوائل ضحايا ليقوموا بتنفيذ عملي لما قاموا بحضوره وسماعه نظرياً في احدى قاعات المؤتمرات الفخمة في فنادق الخمس نجوم وفي ظروف تكاد تكون مثالية ومبالغ في اضفاء صفات الايجابية عليها.
فمن السهل جداً الحديث عن عض الجراح والعفو والصفح ولعق الجراح ومسامحة الآخر الذي أفرط بالاجرام ولكننا لم نسمع حتى الآن ولو بشكل دراسات عن الكيفية المتوقعة التي يمكن الخروج بها من هذه الواقعة المظلمة كي يتم وأد مستنقع انتقام لن يجلب الا المزيد من الخراب والدمار.
لحد الآن هناك جدار فاصل بين الواقع وعالم رفاهية الكلمات والدويرات، لم نسمع مثلاً عن التزام مستقبلي لحاضري هذه الدويرات للعمل في سد هذه الثغرة الكبيرة الآخذة بالاتساع ولم نسمع سوى بما تقدمه تلك الدويرات عن مصاريف السفر والانتقال، ولم نشاهد نتاجاً لهذه الدويرات سوى تدويراً لعبارات كبيرة بمضامين هزيلة لن تفيد في سد جسد أضنته القراح واليتم والعنف والانعزال.
لم نجد من ناشطي الغفلة سوى المزيد من مظاهر التعالي على مجتمع منهك يحتاج فلاحين وطنيين يعشقون الأرض ورائحة التراب لا يخشون من الغبار ولا يفزعون من الطين، يتقنون أساليب الصبر وأساليب الفلاحة، حريصون على اقتلاع الأحجار، كبيرها وصغيرها، يتقنون اساليب تمهيد الأرض ليبدأ موسم جديد من زرع نريده أن يكون نضراً يسر الزارعين ويفيد الوطن والمواطنين، وللحديث بقية.
عبد الكريم أنيس