تعج تفاصيل الحياة اليومية للمدنيين في المناطق المحررة بألاف القصص التي ترسم واقع صمود أسطوري في ظل حرب ابادة ممنهجة، ومع ازدياد ضراوة الحرب المندلعة منذ قرابة اربعة أعوام والاستهداف المتعمد من النظام لمفاصل الحياة اليومية في المناطق الخارجة عن سيطرته، تحولت الحياة في المناطق المحررة إلى تحدا للاستمرار في البقاء.
فضل كثير من السوريين جحيم مناطقهم الخالية من النظام على العيش في دول اللجوء أو حتى في المخيمات، ويقدر عدد المدنيين في المناطق المحررة في عموم سوريا بقرابة ستة ملايين نسمة من مختلف أطياف وفئات المجتمع.
يعيش هؤلاء في ظل ظروف حياتية صعبة، حيث يشكل الموت بفعل براميل النظام وصواريخ طائراته الحربية أصعب رقم في معادلة البقاء والتأقلم مع الحرب.
هنا في هذه المساحات الواسعة المحررة من سوريا، حيث لا يملك أحد قرار الحياة ولقاء الموت وعناقه، الموت الذي يأتي بغير موعد مسبق بات الزائر الذي لا يغيب.
قصص الصمود والتحدي التي يخطها المدنيين والجنود المجهولين، الذين أحبوا البقاء بين الدمار علهم بذلك يبعثون الحياة على من يأس وفقد الأمل بوطن بات يتنازع على أرضه جميع المهوسيين بإقامة الخلافة وسرقة نفط الشعب، بعيدا عن قتال الطاغية الذي مازال في قصره يتربع.
في مشهدا بات اعتيادي قرعت فيه أجراس الخطر، والمراصد العسكرية تعمم على تردداتها أن طائرة مروحية أقلعت، ويبدأ الجميع بترقب أين ستحط رسائل موتها هذه المرة، حلقت الطائرة فوق مدينة سراقب بإدلب وأخذت عدة ثوان في الدوران حولها، يتعالى صوت الصراخ على القبضات اللاسلكية وأفواه الناس « دبت دبت دبت» الجميع يختبئ بين الزوايا وأصوات مضادات الطيران تتداخل مع صوت البرميل الذي يصفر في الهواء، ماهي الا ثوان وتتعالى أعمدة الدخان وغبار البناء الذي عانق الموت والاختناق مع ساكنيه.
ثوان أخرى تبدأ صفارات سيارات الدفاع المدني مسرعة نحو المكان، لتبدأ رحلة البحث بين الأنقاض والجدران التي دفنت تحتها روح تختنق ببطئ، والعيون جميعها تترقب وتبحث بين الركام عن جسد لانتشاله، بعد زمن من البحث يصدح صوت بالتكبير لوصله نحو جسد مثخن بالغبار الأحمر لينتشله ولتمتد الايادي نحوه مسرعين فيه نحو مشفى ميداني.
من بعيد يقف رجلا أتعبته الحرب ولكن هذه المرة مزقت قلبه، فالمنزل المدمر ترك فيه أولاده وزوجته وغادرهم صباحا الى عمله، يضيع يديه على عينيه كي لا يبصر مالا يحتمل رؤيته ويبكي بكاء قهر الرجال.
جسدا وراء أخر ينتشل من بين الركام والبحث يستمر وبسرعة تكاد تسبق سرعة نبضات القلب، أحد جيران المنزل الذي تهدم يقول «بقي أحمد شفتو الصبح لابس كنزة حمرة دور عليه منيح هو جسمو صغير بكون صار تحت شي حيط دور منيح»
يتصبب العرق على وجوه أصحاب القبعات البيضاء وأنفاسهم تلهث بحثا عن أحمد الذي بقي من أفراد العائلة بين أحضان الركام فيما أسعفت أمه وباقي أخوته نحو المشفى الميداني، يصرخ الاب من بعيد «راح احمد»، وبعد ساعتين من البحث يعثر على أحمد مغطى بالغبار الأبيض معانقا للموت، راحلا هذه المرة نحو أطفال حييه الذين سبقوه قبل أسبوع في مشهد مماثل.
يتكرر المشهد بتفاصيل مماثلة بشكل يومي، وتتكرر معه قصص الموت، ومع ازدياد الهوة بين الرحيل والبقاء، تتكاثر ارادة الحياة من جديد، الطبيب الذي أسعف، والأب الذي فقد وعنصر الدفاع المدني الذي مزجت دموع عينيه بعرق جبينه لتنتج سواعدا سمراء،أصرت جميعها على الحياة وأعادت رسم الخيار بقاء على أرض ولدوا من رحمها.
ومع عودة الاصرار من جديد، تعود التفاصيل اليومية لتشغل الحيز المتبقي من الروح، فذاك أبو أحمد ينطلق صباحا إلى فرنه الجديد، مسرعا لتأمين الخبز لسكان المدينة، وذاك الشيخ خالد يلتف حوله مجموعة من الصبية، يعلمهم القران في مسجد المدينة، يكفيك أن تنظر في أعين تلاميذه الصغار وضحكات وجوهم، لتسترد ماتبقى من روحك موقنا بان الحياة مستمرة ماعلت ضحكاتهم.
وليس بعيدا عن المسجد يطل صلاح برافعته، محاولا اصلاح اكبال الكهرباء التي تضررت بفعل قصف الأمس.
لتدور عجلة الحياة مجددا وتقف عند الموت المنتظر لترتاح لزمن ثم تتابع دورانها، فهاهو المرصد عاد من جديد ليؤكد دخول المروحية اجواء المدينة، وهاهم فرق الدفاع المدني في حالة التأهب القصوى، والفرق الطبية تنتظر بقلق ما سيحدث، لحظات فقط، الصفير مجددا، الموت مجددا، ومجددا ارادة البقاء.
دانيا معلوف