زيتون – غادة باكير
غادرت ألعابها المبعثرة في الغرفة، واتجهت مسرعة صوب والدتها في المطبخ، وهي تنادي: أمي قد جاء بائع المعروك. كانت والدتها غارقة بين أواني الطبخ، فالوقت يجري مسرعاً، ولم يتبق الكثير لأذان المغرب، ويجب عليها تجهيز الطعام، ففي رمضان تتغير طقوس العائلة، ولكن رغم انشغالها لم ترغب في خذلان طفلتها ذات الأعوام الأربعة، لأن المعروك من ضمن شعائر رمضان لدى الناس.
غسلت يديها، وهي تخاطب صغيرتها: اشتري من البائع وادخلي بسرعة فالقناص كما تسمعين يا صغيرتي لم يتوقف عن إطلاق الرصاص. مدت يدها إلى صدرها، وأخرجت ورقة نقدية بقيمة مئة ليرة وناولتها لصغيرتها.
كانت خصلات شعرها المبعثرة تغطي وجهها، وقد ارتسمت ابتسامة فرح على ثغرها حين أمدتها أمها بالمال، التفت لتغادر المطبخ وتلحق بالبائع لكن يد أمها استوقفتها، ورفعت لها الشعر عن عينيها، وطبعت قبلة على جبينها وهي تقول: حاذري يا صغيرتي.
غادرت الصغيرة المطبخ، وركضت صوب باب المنزل، وبيدها المئة ليرة فتحت الباب مسرعة، وهي تنظر صوب الإذاعة على يمينها حيث يتمركز العديد من القناصين، ويشرفون على كافة شوارع سراقب من كل الجهات.
بحثت بعينيها عن البائع، الذي مازال صوته يصل لأذنيها، وهو يترنم بكلماته التي يمدها بطريقة موسيقية مغرية للشراء
تازة وسخن يا معرووووووك
كان صوت بائع المعروك يرن في أذنيها، أعلى من صوت رصاص القناصة، فلحقت به وهي تصرخ:توقف.. توقف..
ويدها مازالت تطبق على ثروتها الصغيرة، وقد زادت من سرعة ركضها حين انحرفت خطوات البائع، ليدخل في الشارع الفرعي
لم تكن الصغيرة تعلم أن هنالك عين تراقبها، منذ غادرت باب منزلها، وأن لعابه بدأ يسيل وكأنه ذئب بشري قد وجد فريسته، وقال:متحدياً لمن يجلس بجواره أتراهن أنني أستطيع إصابة هذه الصغيرة في ظهرها، وهي تركض
ضحك الآخر قائلا:أراهنك
وضع كل تركيزه الوحشي على فوهة قناصته، وهو يتابع الصغيرة التي أصبحت الآن في مرمى نيرانه، وقد التفت صوبها البائع وقفل عائداً باتجاهها، وهو ينزل كرتونته من على رأسه ليبيعها، وهنا تباطأت قليلاً وقد أنهكها الجري خلفه، حين شاهدته وقد عاد إليها، لم تكن تشعر بتلك النقطة الحمراء المتمركزة على أسفل ظهرها، وما هي إلا ثانية واحدة حتى انطلقت الرصاصة من مخزنها، لتشق الهواء وتستقر في ظهرها تقدمت الصغيرة بخطوتين حارقتين مؤلمتين، دون أن تدرك ما حدث وحين سقطت على الأرض، كان البائع قد رمى كرتونته، وركض محتمياً بالجدار المجاور له وهو يصرخ:لقد أصيبت يالله.. يالله.. لقد أصيبت.
في الشارع الفرعي وبعيدًا عن أعين القناصة، كان البعض من رجال الحي يجلسون على أبواب منازلهم، في محاولة منهم لإضاعة ما بقي من وقت للمغرب، وهم يتحدثون عن قرف القناصين، الذين يكبلون حركتهم في الشوارع، وتعرضهم لخطر الموت في كل حركة، هب الجميع واقفين مذعورين، حين سمعوا صراخ الغلام بائع المعروك، وتراكضوا مسرعين صوب الجدار الذي يقف بجواره، وهو يصرخ ويبكي لقد سقطت البنت الصغيرة، كانت ملقية على الأرض، وهي ما تزال تطبق راحتها على المال، ووجهها للأرض، وقد شعرت بشيء ساخن يجري على ظهرها، لم تكن تشعر بالألم، ولكنها تعجز عن النهوض، لقد اتسخ ثوبها مما يعني أن والدتها ستوبخها.
حاول احد الشبان التقدم إليها لحملها، إلا أن القناص كان يطلق الرصاص نحوهم، ويمنعهم من الاقتراب.
وأصبح الكل يصرخ وينادي يالله.. يالله.. وآخرون فقدوا السيطرة على أعصابهم، ونسوا صيامهم، فبدأت اللعنات والكفر تنطلق من ألسنتهم والعجز يكبل حركتهم، ويمنعهم من الاقتراب صوب الطفلة.
حدثت ضجة في الخارج، جعلت الأم تشعر بنار تحرق قلبها، وقد فقدت يديها القدرة على متابعة عملها، فخرجت من المطبخ مسرعة صوب الغرفة، لتجد ألعاب صغيرتها مبعثرة على الأرض، وهي غير موجودة هذا يعني أنها مازالت بالخارج، ركضت مسرعة صوب الباب، وهي تصرخ لا شعورياً
سدرة.. سدرة..
اتجهت من يسار الشارع، بعيدا عن أعين القناصة، فرأت الرجال والنساء والأطفال متجمهرين بالقرب من الحائط، أخذت تركض باتجاههم وهي تبكي دون أن تعرف السبب، وما إن اقتربت حتى أمسكت بها يد جارتها وهي تقول اهدئي، نظرت للمكان الذي يراقبونه، فوجدت ابنتها ملقاة على الأرض، وعاجزة عن الحركة، فبدأت تصرخ وتلطم خديها، وهي ترى الكل يقف عاجز عن الاقتراب من صغيرتها بسبب رصاص القناصة.
كانت رباب تقف باكية، وهي تراقب ابنة جارتها الملقاة على الأرض تنزف دمها، وحولها رصاص القناصة يمنع الرجال من الاقتراب، لم تعد قادرة على مواصلة بكائها الغير نافع، فتناست وجود كل هؤلاء ممن حولها وتمددت على الأرض، وبدأت تزحف صوب الصغيرة التي كانت قد فقدت وعيها، وتحولت لشبه جثة تتنفس ببطء، تابعت رباب زحفها، وأمسكت بالصغيرة من يدها الممدة بجوارها، وبدأت تسحبها صوب الجدار لتتمكن من الوقوف وحملها، كانت أنفاس من حولها قد توقفت، ولا يصل لسمعها سوى صراخ الأم وعويلها، وحين أصبحت قادرة على النهوض بعيدا عن أعين القناصة، بدأت تصرخ:أحضروا السيارة مازالت الصغيرة تتنفس فأسرع أحدهم لسيارته، ووضعها فيها مع أمها، وبدأ رحلة الموت بين رصاص القناصة، وهو يزيد من سرعته ليسبق رصاصهم القذر، وفي المشفى تم إسعاف الصغيرة التي كانت بين الحياة والموت.
فتحت الصغيرة عينيها لتجد نفسها على سرير في المشفى، وبجوارها أمها الباكية، وقد حفر في ذاكرتها تاريخ هذا اليوم الأسود من رمضان 2013 ولن تنساه أبداً، لم تستطع تذكر ماحدث، كان هنالك ألم في جسدها الصغير جعلها عاجزة عن التفوه بأية كلمة، انحنت أمها فوقها لتطبع قبلة على جبينها وتبتسم لها من بين دموعها، كل ما تمكنت من تذكره أنها كانت تجري سعيدة صوب بائع المعروك، نظرت إلى يدها فلم تجد المال، فبدأت تبكي بصمت.
غادرت المشفى بعد أيام، وجملة واحد تخترق دموعها، أمي أريد أن أمشي.
والأم تخبرها ستمشين بمجرد أن يزيل الطبيب هذا الشاش، وهي تثق بأمها فهي لاتكذب، ومرت الشهور بطيئة، وهي تلتهم طفولتها بآلام لا تحتمل لكنها تنتظر اليوم الذي يزيل فيه الطبيب الشاش لتتمكن من المشي ثانية ولكن هذا الحلم لم يتحقق، فالشاش قد أزيل، والسنوات الثلاث مرت، وهي ما تزال عاجزة عن المشي، لقد أصبح عمرها الآن سبعة أعوام، وما زالت تجلس في غرفتها، وهي تمد قدميها الفاقدتين للحياة، كانت تتألم بصمت حين ترى إخوتها من حولها يمشون ويركضون، وهي عاجزة عن ذلك حتى أن رغبتها في الحديث أو الضحك أو اللعب اختفت تماما، وما يثير قلقها أنها اكتشفت كذب أمها مرتين، الأولى حين أخبرتها أن والدها سيرجع، ولكنها علمت فيما بعد أنه في الجنة بعيدا عنها، ولن يرجع أبداً، والثانية حين أخبرتها أنها ستعود للمشي. ولكنها أدركت بعد مرور السنوات أنها أصبحت مشلولة تماماً، ولن تتمكن من المشي ثانية، ورغم ذلك تصر الصغيرة قائلة لنفسها:لا أمي لا تكذب.
كانت عيون والدتها تخاطبها بدون كلمات، وكأنها تعتذر لها، لأنها كذبت عليها يوما، وأخبرتها أنها ستعود للمشي ثانية.