زيتون – بشار فستق
شكّلوا لجنة لفحص تماثيل حافظ الأسد المنتشرة حتّى على رؤوس بعض التلال، فقد ازدادت الأخطاء في نسب أعضاء جسم المذكور، كأن يكون حذاؤه ورأسه أكبر بشكل مُلاحظ من بقيّة أعضاء الجسم، أو أن تكون المؤخّرة منتفخة أو منخفضة بشكل كبير، وبعضها تبدو كفّ اليد نحيلة مدبّبة، أو متمدّدة كجدار، وبدا في أحد الأصنام جالساً على كرسي نحيل الأرجل الأربعة، وعلى ظهره قتب*، أمام مكتبة ألصق بها اسمه، كمعظم المرافق العامّة في البلد.
يعود فنّ النحت السوريّ إلى آلاف السنين، وقد مرّ بمراحل متعدّدة من الفترة الآشوريّة إلى الآراميّة إلى الكنعانيّة، وقد دمّر النظام في السنوات الخمس الأخيرة، بالتعاون مع شريكه تنظيم «داعش» العديد من هذه الأوابد والآثار وخصوصاً النحتيّة في المدافن التدمريّة.
يعتبر النقّاد البداية المعاصرة لهذا الفنّ في سورية في ثلاثينيّات القرن العشرين، مع النحّات «فتحي محمّد قباوة» في منحوتة «الزنبقة» وتلته أسماء روّاد منهم «محمود جلال» في الأربعينيّات، ثمّ «أدهم إسماعيل» وكثيرون غيره في الخمسينيّات، وصولاً إلى ما اعتبره بعض النقّاد** انعطافة في مسار فنّ النحت السوريّ عام 1956، على يديّ الفنّان «مروان قصّاب باشي» بمنحوتة الهامّة «الجوع»، باعتبارها المنحوتة التعبيريّة الأولى في تاريخ الفنّ السوريّ. كما يعدّ إدخال النحّات «سعيد مخلوف» مادّتي الحجر والخشب بداية الستّينيّات إلى منحوتاته نقطة انعطاف ثانية في النحت السوريّ المعاصر.
بعد غرز نظام الأسد أنيابه في الجسد السوريّ بداية الثمانينيّات، ظهرت علائم مسخ النحت، رغم تخرّج مواهب عديدة من قسم النحت في كلّيّة الفنون الجميلة بدمشق، لكنّ سطوة قبضة أمن النظام كانت تخبط وتبطش؛ فمثلاً مُنع عمل تخرّج نحت بارز (رولييف) لطالب، وسُحب من العرض، لأن موضوعه كان عن مجزرة «تلّ الزعتر» التي أشرف عليها ونفّذها جيش الأسد عام 1976على الشعب الفلسطينيّ، بالتعاون مع ميليشيات طائفيّة معروفة في لبنان، وبالطبع تعرّض الطالب للاستجواب، وأعلن التوبة.
بعد هذه الفترة، اشتدّ تشجيع وتمويل المنحوتات التي تمثّل رأس أو جسم حافظ الأسد، وانتشرت حُمّى تماثيله قبيل دورة المتوسّط 1987، تقليداً للديكتاتوريّات العالميّة (تخليد الرموز) من أمثال: المجرم «ستالين» وغيره.
التجأ بعض الفنّانين السوريّين الشباب إلى استلهام أساطير المنطقة وموروثها النحتيّ، في محاولة لتأسيس خصوصّية الشخصيّة السوريّة الحديثة لفنّ النحت، وربّما – بنفس الوقت – هرباً من الرقابة أوّلاً، عندما كانوا يطرحون مفاهيم مثل الحرّية، وكذلك تفادياً لتنفيذ ما تريده السلطة من مواضيع التمجيد العقائديّ، وتأليه القائد، وعلى رأسها صناعة تماثيل (أبو راس) كما كان يسمّيه بعض الفنّانين، ومنهم: مظهر برشين، محمّد بعجانو، وأكثم عبد الحميد.
أنشأت الجهات الرسميّة ملتقيات للنحت في منتصف التسعينيّات، تحت هدف معلن تجميل الساحات والحدائق والشوارع، تقام بشكل دوريّ، وتقدّم فيها الخامات والأمكنة اللازمة للعمل، وبحسب شهادات من شارك فيها من النحّاتين، فهي لم تحقّق الأهداف المزعومة من تفاعلات مع التجارب العالميّة أو تشجيع للثقافة البصريّة، وذلك بسبب العقليّة المتحكّمة بالثقافة عموماً، والتي تسعى لتوجّهها لصناعة تماثيل لحافظ الأسد، واعترف الفنّانون بأنّ فنّ النحت تحوّل إلى تعهّدات ومقاولات، وفقد الاهتمام بالجوانب الفنّيّة والتعابير الجماليّة، إذ صار إلى عمليّة تجاريّة مفرّغة من المحتوى الإبداعيّ. ووصف أحد هؤلاء المشاركين الوضع بأنّه: «متردٍّ» وأنّ «الفراغ الثقافيّ السائد، نتج عن الخلط بين الإبداع والفعل المنبثق عن وجدان الإنسان وقيمه الجماليّة والأخلاقيّة، وبين الادِّعاء الذي يفتقر إلى الفكر والتقنية معاً». وأرجع الفنّانون ذلك إلى أنّ: «هذه الملتقيات النحتيّة اعتمدت أسلوب الانتقاء المزاجيّ والانتفاعيّ، وتقلّصت النزاهة لدى لجان التحكيم بسبب انتماءاتهم الفكريّة ومناهجهم النقديّة، ما دفع النحّات إلى الاستسهال والابتذال».
والحقيقة أنّ من يحبّ العمل أمسى أمام خيارين: إمّا أن ينفّذ ما يريده المسؤولون عن الملتقيات أو أن يجلس منزوياً. إلّا أنّ هنالك استثناءً في بعض التجارب الخاصّة المستقلّة، ومثال ذلك، سعي الممثّل الفنّان «فارس الحلو» بجهوده الفرديّة ونجاحه في تأسيس ملتقى النحت الأوّل في «مشتى الحلو» في صيف 2006، بل وأتبعه بالملتقى العالميّ الثاني باسم «جمال الحبّ». وقد ضمّ هذان الملتقيان تجارب لنحّاتين عالميّين معروفين، وكذلك محلّيّين، لم يصنعوا تماثيل حسب التوصيات للقائد (الخالد) أو للابن (الوريث).
اللجنة التي شُكّلت برئاسة النائب – النائبة للوريث، فقد قامت بتصنيف التماثيل إلى صالح للعرض أو لا، وتمّ تجميع ما اعتُبر فيه أخطاءً فنّيّة، ووضع في مستودعات.
في المدن المحرّرة، كان الشعب السوريّ يُسقط تماثيل حافظ الأسد، فور وصوله إلى الساحات الرئيسيّة، كما في درعا والرستن والرقّة وإدلب وغيرها، وركلها الشبّان السوريّون، ودحرجوا الرأس، وقام رجل من مدينة الرقّة يدعى «أبو طه» بالتبوّل على رأس تمثال المقبور (أبو راس)، وُثّقت كلّ هذه اللحظات، كما يحدث في مدن العالم عندما تبدأ الديكتاتوريّات المستبدّة بالسقوط.
هامش:
*القَتَب: ما تحوّى البطن، مِعىً. فتندلق أقتابه [حديث]: تخرج أمعاؤه متدلّية من بطنه وهو الرجل من أهل النار. (معجم المعاني الجامع).
** من كتاب «تاريخ النحت المعاصر في سوريا»، تأليف: الناقد عبد العزيز علّون.