زيتون – حوار: رزق العبي
قهوةٌ بطعم الزمن الجميل، وكوخ، ولا صوت يعلو فوق صوتِ الشعر، في زاوية إلى جانب قرية الغدفة شرقي معرة النعمان، صنع الشاعر عبد الرحمن الإبراهيم كوخاً، ليكون منفاه البعيد القريب، هناك تجتمع ظروف الجمال رغم الواقع المرير، ليلازمه لقب شاعر الجمال حتى في زمن الحرب والدم.
يقول الإبراهيم باختصار.. وطنٌ وطين.. والبرد ثالثنا.. ورابعنا الحنين، وهي مقطع من قصيدة كتبها لقريته، التي خبِرت طفولته، وأسست لشاعر له عدد من الدواوين.
زيتون التقت بالشاعر عبد الرحمن الإبراهيم وعادت بالحوار التالي:
بداية.. يقول «فريدريك نيتشا» الأديب الألماني، «دعِ المشاغبين وارجع إلى مقرّك، فما ميدان الجماهير إلا معترك يهدّد سلامتك، بين خنوعِ نعم وتمرّد لا، ولا تقوم عظمة إلّا بعيداً عن الناس» هل انزواؤك في كوخك القصيّ ترفّعاً عن الناس، أم لاختلاء الشاعر بنفسه، أم للزهد دور، في كوخ الاعتكاف؟
الكوخ الذي كانت بدايته على غرار خيمة الناطور، الخيمة التي جبلت طينها بيدي حنيناً لذاكرة غابرة، واستجداءً لماضٍ ترتاح لنكهة طينه الروح، أمّا سبب الإقامة فيه هو اجتناب القذائف الغادرة ما أمكن، التي كانت تسقط على الضيعة، ثم جاءت بعدها الطائرات الفاجرة، أضف لذلك وبعد أن طارت الوظيفة مع رواتبها، أنشأت بجواره ما يشبه المنتزه لنعتاش من دخله، ثم إن الضيوف.. ضيوف الثورة عشاق الحرية الذين نسعد بتشريفهم يحبون أن نستقبلهم في رحاب هذا الكوخ المتواضع.
*للحنين إلى الطفولة مفردات حاضرة في شعرك منها «يا دار جدي، الكحل، حارات، تنَكْ، حواكير، مهباج.. «، هل كان للشعر والكلمة حضور في طفولتك، وكيف كانت بدايتاك؟
من أتم نعم الله عليك أن تكون محباً للجمال، ولا أبالغ إن قلت لك خلقتُ مفتوناً به، ولما كانت الفنون من أهم مظاهر الجمال، أولعتُ بها جميعها، وكنت من أبرز الأطفال في حفظ الأهازيج والأغاني الشعبية، وبدأت بالرسم ربما لتوفر الألوان.. ولأنه لا يحتاج اللغة التي يصعب على الطفل نحوها وصرفها، كان يستهويني الشرود في البراري والغناء مع عصافير الحواكير، في المرحلة الثانوية هممت بالموسيقا وهمّت بي، إلا أن ثمن الآلة الموسيقية حال بيني وبينها، تلقيتُ صدمة موجعة بعدم قبولي في كلية الفنون، لسبب وحيد وهو أنني لست بعثيّا! أقلعتُ عن الرسم نهائياً بعد الانتهاء من الخدمة العسكرية، وذلك هروباً من سخرية المجتمع وجرياً وراء الوظيفة والعمل، غير أني بقيت موجوعاً بالحنين إلى الفنون، حتى عدت في سنة 1994 إلى مقارفة الشعر، على أثر زيارة لدار جدي ووقفة على أطلالها، حيث ولدت القيصرية الأولى، والتي أسميت ديواني الأول باسمها.
* لطالما أسندتَ ظهرك على خرائب الأوابد الأثرية، لتكتب عنها، أين تلك الأوابد منك في هذه الأيام؟
منذ تفتّحت عيون قلبي.. وبيوت ضيعتنا تنام في أحضان الأوابد الأثرية، بيدرنا مسيج بآيات تلك الأوابد، شغب الطفولة ما زال منقوشاً على خدود حجارتها، أشلاء أحلامي ما تزال طرية بين أعشابها، جحور إخفاء السجائر عن عيون الأهل.. منها ما صار أعشاشاً للعصافير.. ومنها ما زال مسكوناً بالكثير من الحكايات، وما زلتُ آوي إليها كلما حننت إلى التاريخ، حيث أشتمُّ منها وعلى مقام المتنبي روائحها الخالدة «لك يا منازل في القلوب منازل.. « رغم الآلام التي أصابتني جراء الاعتداء عليها، من قبل شبيحة الجشع، الذين يكرهون كل الأشياء الجميلة.
* وكيف تقّيم الحراك الأدبي الثوري على مدى ستة أعوام، وماذا قدّم للثورة، وهل كان على قدر المسؤولية؟
سأحدثك في الإجابة على هذا السؤال عن الشعر فقط، الذي لم يكن له دور يستحق الذكر، في حال استثنينا أهازيجه، والسبب يكمن في عدم الاحتفاء بالقصيدة، نحن أمة ـ وأرجو أن لا تغضب مني ـ لا نحتفي بالجمال، جانبنا المادي لم يترك شيئاً لجانبنا الروحي، ولا يقتل القصيدة ألا عدم الاحتفاء بها، ولكي تجد من يحتفي بالقصيدة عليك أن تخلع عنها قميص الشعر وتتركها عارية إلا من النظم الذي لا يخاطب سوى الغرائز، ناهيك عن ضجيج العسكرة بكل أديلوجياتها والذي يطغى على همس القصيدة المفعم بالعذوبة والرقة والجمال.
* يقال أن هنالك تصحر أدبي، فما هو سبب هذا التصحر؟
سامحني إذا كررت لك الحقيقة المؤلمة.. بأننا أمة لا يستهويها الجمال كثيراً، وأقصد بالجمال هنا كل معانيه العميقة، وإن دلّتْ هذه الحقيقة على شيء، فإنها تدلّ على قابليتنا للتصحر.. وليس في الأدب وحده، بل في كل ضروب الإبداع، فما جدوى أن تهطل الغيوم على أرضٍ لا تكترث بالاخضرار، فإذا نظرنا إلى الأدب من هذه الزاوية، فلم نجد إلا مشهداً متصحراً، ناهيك عن الوجع المرّ وشظف العيش ورائحة الدم وانعدام كل مقومات الحياة، هذا بالنسبة لما يتعلق بالمشهد السوري على وجه الخصوص.
* هل كان للأدب مواقف بارزة، في مراحل الثورة المهمة كالتسليح والأسلمة؟
أبداً.. أبداً.. ما ذكرته جاء من الخارج.. محمّلاً على أكتاف من لا يؤمنون بالأدب ولا يتعاطونه، فأي دورٍ سيكون للأدب.. أمام حالة تستهجنه ولا تصغي إليه!
* للمرأة سطوتها عليك، لماذا لا تتعامل معها بندّية؟
أراك يا صديقي بدأت تتحرش بالعذوبة، متلمساً ضفافها، إذ ليس هناك أعذب من الحديث في المرأة، أمّا أن تتعامل معها بنديّة، فهذا منتهى الحيف، وفيه يكمن إلغاء دورها الخلاق، وفي حال هبطت للأسفل بغياب سطوتها.. سأضطر للهبوط وهذه الحالة يكفيها اسمها، أما في الحالة المعاكسة، يكمن السمو والرقي وأنت تلهث صاعداً نحو هذه الهالة المشكلة من كحل عينيها وأعشاب غرّتها القتولة، وهنا يكمن سرّ المرأة العظيمة الخلاقة، التي تبتكرك من خلال توقك لذروتها المعممة بثلوج الحبِّ الناصعة النقية، وفي حال دنوت من هذه الذروة، ستجد عندها القصيدة.. التي ستطعم قلبَكَ من جوعٍ وتؤامنه من خوف.
* تعيش قصة حبّ، وهذا ما نودّ الحديث عنه، كيف حال الحبّ في زمن الحرب التي تفتك بكل شيء؟
ليس هناك من سويٍّ ولا يحيا قصة حب، ومن لا يحياها فهو ميّت يعيش كما بقية المخلوقات فكيف لو علمتَ بأن أهمّ مخلوقات الله وأعظمها هي أنثوية بامتياز.. السماوات.. الشموس.. المجرات.. الخ، فالمرأة الأنثى والتي هي أهم وأعظم المؤنثات بالنسبة للرجل وليس الذكر، أليست جديرة بالحب؟ أما جعل منها الأقدمون آلهة للحب والخصب والجمال، وبعد أن ران على قلوبنا التخلف والجهل، بتبني ما نسب للمقدس وهو ليس منه، صار معظمنا يخجل من الحب وكأنه نوع من الدعارة فيكتمه، تصوّر معي عالماً بدون هذه الأنثى وبدون حبها، ماذا سيبقى فيه من الحياة.
أمّا عن الحب في الحرب، هو أهم ما في الحب.. حيث وهو فيها لا تطاق، فكيف إذا كانت بدونه ولن تكون إجابتي وافية، إذا لم أضعكَ أمام هذه الحالة الانغماسية.. والتي عاشها عنترة كحقيقة روحيّة وليس مجازاً «ووددتُ تقبيلَ السيوف لأنها.. لمعت كبارق ثغرك المتبسم» في هذه الصورة يكمن جوهر الحب، ولهذا سكنت الخلود، وإليك ما قلته أنا في آخر قصيدة كتبتها: والكحل ينزف من أهدابها حلباً
وربّ كحلٍ له كالعين وجدانُ
وربَّ كحلٍ له في العين ذاكرةٌ
إذا استجيشت ْ صحت ْ في الخيل فرسان
يلمُّ قلبي صهيلَ الشعر من دمها
كم في دماها لمهر القلب قصدان
فلا تصدّق بأن هناك من يدافع عن العرض والوطن والدين والكرامة والحرية ولا يكون قلبه مفعما بالحب.
* كيف توفّق بين الحياة الزوجية والأسرة والتزاماتها وبين طقوس الشعر وجنونه؟
الشاعر من أنجح الأزواج على الإطلاق، لأنه يعيش على سجيّته، دفّاقاً بكل شيء، عطوفاً، حنوناً، سخيّاً، رضيّاً، ودوداً، مزوحاً، فهو مسكبة من أزاهير الفرح والسعادة، إذا عرفت الزوجة كيف تعتني بزهور هذه المسكبة المعطاءة، وما عليك إلا أن تتصور الفرق.. بين من تسقيها وتعتني بها.. وبين من ترشّها بالمبيدات!.
* وكيف ترى دور المرأة السورية في سورية المستقبل؟
المرأة السورية في سوريا المستقبل كالرجل في سوريا المستقبل، وكلمة امرأة لا تنطبق على جميع النساء، كما أن كلمة رجل لا تنطبق على جميع الرجال، هناك تفاوت على المستوى الفردي، فمع هذا التفاوت تبقى الحرية المنشودة هي المناخ الضامن والوحيد لتطور المرأة، طبعا لا أقصد بالحرية كما يفهمها الأغبياء، الذين هم أيضا لا يمكن لهم أن يتخلصوا من غبائهم إلا بالحرية، الحريّة هي شرط الحياة الوحيد، والذي من خلاله سيتاح للمرأة السورية أن تعيد ابتكار ذاتها المبدعة التواقة لاستعادة إنسانيتها المفقودة، بعد أن شوّهها الاستبداد وجعل أكبر أحلامها أن تكون خادمة ممتعة وحسب.
* خبرتك أزقتها عن ظهر قلب، سلمية الماغوط، بلياليها وسهراتها، كيف كانت علاقتك مع أهلها، وهل تشتاقها الآن؟
هناك شيء من المبالغة في متن السؤال بقولك: خبرتني أزقتها عن ظهر قلب، وما خبرني بها إلا الأصدقاء الذين يعدّون على أصابع اليد الواحدة، وعلى رأسهم المرحوم الشاعر العذب منذر شيحاوي الذي ربطني به حبّ عارم، ولربما أحببتُ السلمية من خلاله على أنها قصيدة سوريا الجميلة، هي مدينة تستهويك بشاعريتها، فلن تجد في السلمية من لا يقول الشعر أو يتذوّقه كما يليق به، ولي ذكريات شعرٍ جميلة، لم تزل تجتر ذاتها على مائدة الحب المنذرية، في سهراتٍ رائعة قضيتها معه، والسلمية مهوى قلوب كل الشعراء، لفرادتها من بين كل المدن السورية، وذلك لاحتفائها المنقطع النظير بالقصيدة وجمالياتها، وهذا ما فرض على قصيدتي محبتها، فكتبتها بأفراحها وآلامها وشجونها وعطشها وويلات ما تعانيه من شبيحة الطاغية.
* لكل كاتب محرّض، ما الذي يحرّض عبد الرحمن الإبراهيم على الكتابة.. وطن، دم، حبّ، أطلال، ذاكرة..
لا يحرضني شيء مما ذكرت بشكل حقيقي، إذا لم تسطع عليه أنوار الثالثة، ألا وهي الحب، ربّما هي حالة مرضية في نظر الكثيرين، لكنها حقيقتي التي تجعلني أشعر بأنّ كل بيتٍ لم يتبلل بعطر الحب، هو بيت مات بسم الكذب العاطفي.
* عنونتَ ديواناً بـ (عشتار) في زمن أصبح الواقع أغرب من الأساطير، ما مدى أهمية الأسطورة في الشعر، للشاعر والجمهور؟
لكل إنسان خلفية وجدانية.. مسكونة بنفحات تاريخية.. تهب عندما تثيرها القصيدة، فيكون لها مفعول السحر في وعي وقلب المتلقي، والأسطورة هي أكسير هذه النفحات بعد أن تعتّقت في الوجدان البشري، أما أهميتها فتكمن في قدرة الشاعر على توظيفها، وذلك بإثارتها في اللحظة الفنية المناسبة، الديوان الذي حمل العنوان المذكور والذي لم يطبع، جمعت بين جلدتيه أهم القصائد التي تجعل من المرأة قيمة عالية تتماهى من خلالها بما قدّس الإنسان في أساطيره الغابرة.
* مادياً، الشعر لا يجلب رغيف الخبز، من أين يعيش الشاعر ليكتب كلماته؟
ما كان الشعر ولن يكون دكاناً للارتزاق، وإن جعله البعض كذلك، فهو أسمى وأجل هو فيضٌ من الجمال، يفجّره الله ينابيعاً من شغاف قلبك، لتسكبه جمالاً على وجه الحياة، فيرى الله فيما أنجزتَ نقاء ابداعك من كل أغراض النفس الصغيرة، وبالتالي تكون قبساً من جماله الذي يفيض على الناس بشراً ونوراً ولا يريد جزاءً ولا شكورا، وعند الأمم الراقية يكرّمُ الشاعر على ما أبدع، ولا يكرّم ليبدع، فكل قصيدة مدّتْ يدها لتأكل بثدييها، قيمتها تكمن في بطن صاحبها ليس إلا.
* هي من كتبها الشعراء كلاماً، وأطربها الغناة غزلاً، دمشق المحرمة علينا، أينها منك في الشعر؟
لطالما ارتبط اسم دمشق بالطاغيتين «حافظ وبشار»، وكثيراً، مما جعل الشعراء الشرفاء يتجنبونها، خوفاً من أن تحسب عليهم لا لهم، لكن دمشق نزار وسعيد عقل وشوقي ودرويش ما تزال في نخاع القصيدة، وقد بدأت تعود لبهائها المرتجى وإليك آخر ما كتبت لدمشق:
عيناك دنٌّ، لوجه الشام، تسكبني
في راحتيكِ، وفلُّ الشام أقداحُ
لمن سيسكبُ، من شريانه، بردى
خمرَ الشآم، وأهل الشام قد راحوا؟!
خيلُ الأغاني، إلى عينيكِ، ترسلني
صوبَ الصهيل، وشوكُ الدّرب نبَّاحُ
مادام جفنكِ مكتظَّاً بأشرعتي
فلن تعيقَ، هوى الملاحِ، أرياحُ
* بعد الستين وعام، كيف تصف هذه الرحلة، وكيف ترى المستقبل؟
سؤلك الأخير فضح المستور، فالشعراء كالنساء لا يحبون أن تعرف أعمارهم، رحلة العمر التي كلما التفتُ إليها.. وجدت جميع السنين الخالية من الحب.. هي خالية من الصدق.. خالية من الحياة.. وأما المستقبل الذي ستصنعه الحرية.. سأقول لك متفائلاً.. هو قصيدة سورية الخالدة.