إن اندحار قوات النظام السوري عن مدينة إدلب يعدُّ الحدث الأبرز في المشهد السوري خلال شهر ونيف, ولسنا هنا بصدد مناقشة معطيات المعارك التي جرت, بل سيكون الحديث عما حدث من نزوح جماعي للمدنيين الذي كانوا يعيشون في كنف واقعٍ تحت سيطرة حكم النظام, ولا يعني هذا موالاتهم له أو تأييدهم لحكمه, فالمدني عامة يتصف بالحياد, ومن الطبيعي أنه سيلتزم بيته إن كان آمناً ولاسيما أن البلاد تعجُّ بأسباب الحرب والموت.
إلا أنه تحت وطأة المعارك التي اشتعلت في إدلب والقصف الشديد خرج المدنيون بأعداد هائلة متوجهين إلى مدن الساحل السوري, التي تعيش استقراراً نسبياً لا يقارن مع الوضع في مدن الداخل الشمالي وريفها,فكانوا بذلك ساعيين إلى حق النزوح من الموت طلباً للحياة.
غير أن المفارقة تكمن في أن الحواجز التي نصبت على مداخل كلٍّ من مدينة طرطوس ومدينة اللاذقية, لم تسمح بدخول أهل إدلب المدنيين, الذين كانوا يعيشون في مناطق النظام ونزحوا حين اشتدت الحرب, من أطفال ونساء وشيوخ. فتمت معاملتهم على أنهم إرهابيون قادمون لزرع خلايا نائمة تهدد استقرار مدنهم.
ولم يتوقف الأمر على مسلمي إدلب وحسب, بل تعداه أيضاً إلى منع دخول المسيحيين الذين ينتمون إلى إدلب, لذا تجمعوا في الحواش في منطقة وادي النصارى بالقرب من مشتى الحلو.
إن المعضلة تكمن في أن هذا المدني إن بقي في مدينته سيعامل بوصفه إرهابياً يخلق بيئة حاضنة للإرهاب تستحق القصف والإبادة, فلو كان مدنياً لا يؤيد الإرهاب لغادر المدينة الواقعة تحت سيطرة المسلحين, على حد تعبيرهم, وإن غادر مدينته سعياً إلى الأمان سيتوجسون منه لاحتمال أن يكون خلية نائمة تُهدد استقرارهم المزعوم, فحلب في مناطقها الباقية تحت سيطرة النظام سمحت باستقبال نازحي إدلب, ولا يعرف السبب الكامن وراء ذلك أو استراتجية هذا القرار, إلا أن الأخبار القادمة منها تقول إن حملات التفتيش في حلب تم تكثيفها بعد سقوط إدلب بشكل كبير من خلال المداهمات المستمرة التي سعت إلى ما يطلق عليه»ضرب فيش» السكان رجالاً ونساء في معظم الأحياء, بحثاً عن النازحين من إدلب على وجه الخصوص.
المؤلم في الأمر أن السوري المدني الهارب من وطأة الحرب والبراميل والقذائف والاشتباكات التي لا تفقه معنى السكون, ما عاد يعاني من انعدام إمكانية حصوله على فيزة تمكنه من الهرب إلى بلاد أخرى عربية أو غربية وحسب, بل أصبح يعاني أيضاً من عدم امتلاكه لفيزة تتيح له دخول المدن السورية والعبور إلى ضفة الأمان بعيداً عن سطوة الحرب.
وقد يظن القارئ أن هذا يتفق مع سياسة التقسيم في سوريا,والتي تضج الكواليس السياسية بمعطياتها القادمة, لكن الأمر لا يعود إلى سوريا فحسب, إذ نجد اليوم أيضاً في العراق منع النظام الحاكم دخول النازحين الهاربين من داعش من محافظة الأنبار إلى بغداد, حيث ضجّت العراق مؤخراً بأصداء غضب عارم إزاء اقتراح العبادي إيواء النازحين من محافظة الأنبار في سجن أبو غريب المهجور.
إن إشكالية التعامل مع المدنيين وتحت مسمى الإرهاب,لا تقف عند غايات المشروع الشيعي في المنطقة ولا حتى الدفاع عن الوجودالسني, بل تعزز اليوم ما يطلق عليه المناطقية التي باتت أخطر من الطائفية, ولئن كانت الطائفية تسبب حروباً طويلة الأمد, فإن المناطقية اليوم ستحدث شرخاً جغرافياً ينهض على المصالح الاقتصادية والسياسية ولن يردمه أي اتفاق أو حلٍّ سياسي, حتى لو سعت الدول العظمى التي تدير هذه الحرب إلى ذلك. وتلك الدول تدرك, بدعمها لسياسة الأنظمة الحاكمة,أن الطائفية ستزول يوماً ما, غير أن المناطقية هي الأنسب في تحقيق غاياتهم وترسيخ مخططاتهم التي يسعون إليها في هذه البلاد.
مي الفارس