تتالت الأنباء الواردة من الحدود السورية التركية، عن إصابات لمواطنين سوريين بعيارات نارية من قبل حرس الحدود التركي على خلفية عمليات دخول غير شرعية الى الأراضي التركية، أو للاشتباه بعمليات تهريب طالما كثر الحديث عنها في الفترة الماضية، غالبا ما تكون الإصابات بحجم المآسي التي تعيشها سورية من واقع الحرب ونتاجها ومخلفاتها، لتروي لحظات عصيبة لأناس عاشوا القصة بآلامها وآمالها وخوفها وحزنها وركامها وغبارها.. قصص قصيرة لحرب طويلة تدور أحداثها «شرق العاصي»..
شرق نهر العاصي وبعد عدة منحدرات وهضبة يعيش عامل النظافة أبو صالح بطل إحدى هذه القصص..
يقول أبو صالح: «لم أكن أعلم أن اقترابي من نهر العاصي للبحث عن مكان يتسع لقصبة صيد السمك سيكون المبرر المزعوم لعيش قصة قصيرة، دفنت تفاصيلها في قبر صغير حفر خصيصاً ليحتضن طرفاً من أطرافي، وذكريات ليلة سوداء بلون حياة أعيشها بألم يعقوب وصبر أيوب وحسرة آدم.. لم أكن لأعلم وقتها أن حياة إنسان لا تساوي أكثر من متعة الضغط على زناد بندقية لتنهي النور في أعين أقوى الرجال وأعتاها..سأنبش قبر ذاكرتي لأروي تفاصيل القصة، علها تصل إلى مسامع وأفئدة الطيب «اردوغان» وحكومته.
أنا يا سيدي الطيب لست بإرهابي ولا أنوي أن اكون، أنا يا سيدي ممن يستبشرون بك كل الخير والأمل.. فأنت الطيب.. ابن الطيب.. بدأت قصتي يا سيدي عندما صرخ صديقي منبهاً إياي أن مدرعة حرس الحدود التركية (الجندرمة) قادمة من جهة الجنوب نحوي.. أي من مخفر (الفرفرية) سيء السمعة، والذي لا يخفى على أحد أن الضابط المسؤول في المخفر هو أحد الضباط الذين أساؤوا للحكومة التركية قبل المواطن السوري، هربت مسرعا باتجاه خزان مياه اسمنتي مخصص للري واختبأت داخله، توقفت المدرعة بعد أن رصدت وجودي وبقيت تترقب خروجي لأربع ساعات متواصلة.. شاهدت غياب الشمس وحلول الظلام، واحصيت مئات النجوم اللماعة، كان لابد من مغادرة المنطقة والعودة إلى منزل أثقل دفع بدل أجره كاهلي وأعيا أطفالي..
لا حل غير ما تصدح به حنجرة صديقي ( اخرج وازحف الى قناة السقاية).
عقدت العزم وبسرعتي القصوى قفزت من الخزان وبدأت الزحف باتجاه قناة السقاية حيث صديقي ينتظرني، كانت عملية زحف قاسية على جسدي المغطى بثياب صيفية رقيقة، وصلت الى صديقي المختبئ داخل (قناة السقاية) واستلقيت بقربه وقد نال قلبي القليل من الطمأنينة التي تلاشت مع أول طلقة أطلقت من رشاش المدرعة نحونا، لم تكن طلقت تحذيرية، وإنما كانت طلقة يقصد بها الأذية، لا شيء سوى الأذية، وتوالت يا سيدي الطلقات تنفجر حولنا وتفتت كل ما يمكن أن يحمينا..
بحركات لا شعورية وسريعة بدأنا زحفنا الخلفي في محاولة للابتعاد عن أعين العسكر التركي ومنظار مدرعته.
لم أخض يوما معركة، كانت هذه معركتي الأولى، معركة غير متكافئة، فطرفكم التركي يا سيدي «الطيب» يستخدم نيران رشاشاته وبنادقه، وأنا وصديقي كنا نستخدم سلاح الدعاء تارة والصراخ لاستجداء الرحمة تارة أخرى، لم أفهم وقتها وحتى الآن سبب قيام الجانب التركي بإطلاق النار علينا على الرغم من وجودنا ضمن الأراضي السورية، وعلى بعد يتجاوز الثلاثمائة متر عن الشريط الحدودي (نهر العاصي).
رأسانا كانا باتجاه الحدود التركية وعملية الزحف الخلفي لازالت مستمرة والأضواء الحمراء الخارجة من فوهة الرشاش لازالت مستمرة.. توقف صديقي عن الزحف والتف برأسه نحوي ليخبرني أنه اصيب، ظننته يكذب، أو تمنيت أن يكون كاذباً أو متوهماً، سألته عن مكان الإصابة فأجابني بصوت خافت: (بين الرقبة والكتف من الطرف الايمن)، مددت يدي الى حيث أخبرني، لُزوجة الدم وحرارته وتدفقه أصابني بشعور لم أختبره من قبل، شعور أشبه بالخوف الممزوج بالذل والترجي.
ضاعت أفكاري بين الخيال والواقع وتقلص جسدي بمرحلة أولى ليبدأ الإحساس بالشلل يتسلل الى أطرافي بسرعة البرق، جمعت شتات أفكاري وأرسلتهم ألى أطرافي للنجاة من المأزق وإسعاف صديقي بأي ثمن، فعائلته الفقيرة أضعف من أن تتلقى خبر وفاة عمادها ومعيلها الوحيد، وشبله البكر لم يتجاوز الرابعة عشر من عمره، ولن يتحمل جسده النحيل عمل شاق لإعالة أربعة أطفال وأمهم الفتية. احتضان يده ليدي أعادني الى واقع أمر وأدهى. همس لي قائلاً:
(أربع طلقات اخترقت جسدي، اتركني وانجُ بنفسك، أطفالك الصغار تستحق أن تنجو لأجلهم، أربع طلقات بمسمى أطفالي الأربعة. تبقى طلقة أخيرة هي بمسمى طفلي الأصغر، لازال بإمكاني النهوض، سأغطي هروبك بوقوفي.. عليك الهروب والنجاة).
لم استطع استيعاب كلامه، حاولت سحب جسده المغطى بالدماء بكل قوتي حتى وصل صدره فوق صدري ووجهه مقابلا لوجهي، حاولت التمعن بملامح وجهه رغم الاضاءة الخفيفة الصادرة عن انعكاس ضوء القمر، بلحظة واحدة تحول الضوء الخافت إلى ضوء ساطع وكأننا بمنتصف نهار صيفي لترتسم ملامح وجه صديقي المنهك.. هي قنبلة مضيئة.. لم أعرف يوماً أن القنابل المضيئة صنعت لترسم ذكرى وجوه من نحب..
ابتسم صديقي ابتسامة خفيفة واقترب برأسه من أذني ليهمس بها (أنا ميت، انجُ بنفسك، انجُ بنفسك واتركني، اهرب طالما تستطيع الهرب)، لم تمنعني يا سيدي الطيب إصابتي بطلقة متفجرة في فخذي الأيمن من محاولة سحب صديقي، إلا أنني كنت عاجزاً عن تحريك جسدي فبدأت الصراخ بأعلى صوتي باكياً داعياً وشاتما.. وضع يده على فمي وابتسم محاولا إبقاء عينيه مفتوحتين قدر المستطاع، هي لحظة مرت وكأنها سنة كاملة لن أنساها ما حييت، باللحظة نفسها التي أغمض بها عينيه اخترقت طلقة جبينه مخلفة ثقب بشكل هلال ذو لون أبيض ونجمة صغيرة ارتسمت من الدماغ المتطاير، وبتدفق الدماء الحمراء اكتملت اللوحة يا سيدي «الطيب»، دماء صديقي من لون عَلَمكم. لم تستطع كاميرا المراقبة المتواجدة في المخفر المقابل التقاط صورة لعَلَمكم رسمت من دم شخص طالما رفع يديه إلى الله داعيا لحضرتكم، اسأل جنودك أيها «الطيب» ليرووا لك قصة العلم التركي المرسوم بدم شهيد فقير علهم يستذكرون، علكم تستذكرون»
لم أكن احتاج كلام أبي صالح لإكمال القصة، ففي كل دمعة استطاعت كسر حاجز أهدابه لوحة مرسومة بحرفية، تكمل ما عجز اللسان عن وصفه، كنت أنا من يحتاج الى عناق طويل للخروج من هول التصور، أنا من يحتاج إلى لفافة تبغ وكأس قهوة من القياس الكبير.
لم تكن قصة أبي صالح هي الأولى أو الوحيدة في المنطقة، إنما هنالك عشرات القصص المشابهة والموثقة عن انتهاكات حرس الحدود التركية بحق مواطنين سوريين يعيشون قريبين من الحدود، أو يجولون في المنطقة بحثاً عن مصدر رزق لتأمين قوت يوم في ظل حرب طاحنة يعيشها السوريون.
فبحسب ناشطين من المنطقة ارتفع عدد الإصابات من السوريين على يد الجيش التركي (الجندرمة) خلال الأشهر الستة الماضية إلى ما يقارب الخمسين إصابة، في منطقة لا يتجاوز طولها العشرين كيلو متر..
«يقول أبو مصطفى وهو ناشط إعلامي من مدينة دركوش الحدودية: إن أكثر ما يحزن أن نتلقى أخباراً من الشريط الحدودي السوري التركي عن إصابات بطلق ناري من أهلنا المهجرين الهاربين من جحيم براميل الطيران والقذائف الصاروخية التي تستهدف المدنيين بالريف الإدلبي المحرر، والمحزن أكثر أن 40% من هذه الإصابات تؤدي إلى الوفاة، و30% منها تؤدي الى إعاقة دائمة والنسبة المتبقية تبقى فترة عدة أشهر لتتماثل للشفاء، ناهيك عن النازحين الذين يلقى القبض عليهم من قبل (الجندرمة) التي لا تستهين في ضربهم ضرباً مبرحاً مع التلفظ بالشتائم والألفاظ النابية، وغالبا ما يتم ضرب من يمسك به على الضفة الثانية لنهر العاصي (الأراضي التركية) في مناطق تكون بعيدة عن عدسات كاميرات المراقبة من الأبراج الموجودة على طول الشريط الحدودي، أي في «النقطة العمياء» لزوايا التصوير أو على ضفة نهر العاصي خلف الستار الترابي المقام لمنع التسلل إلى الأراضي التركية»..
لا تقتصر تصرفات (الجندرمة) التركية عند حد إطلاق النار على من يحاول التسلل الى الأراضي التركية، بقصد عمليات التهريب والذين دائماً ما يكونون من العمال البسيطين، بل هنالك من تحدث عن تقصّد حرس الحدود التركية للأهالي والمزارعين الموجودين على الطرف السوري من الحدود، بغض النظر عن عمله أو عمره أو الغاية التي أوصلته للمرور على جانب الحدود، مما أدى الى نتائج شبه كارثية بالنسبة إلى بعض العوائل التي تملك أراضٍ زراعية على الجانب السوري من الحدود والتي تعد مصدر الرزق الوحيد..
كما تجدر الإشارة الى أن معظم الانتهاكات المسجلة والموثقة (بالشهادة) ضد مواطنين سوريين من قبل حرس الحدود التركية، هي انتهاكات مسجلة باسم مخفر قرية (الفرفرية) التركية التابع لقطاع (قربياص)، حيث أن الضابط المسؤول عن المخفر موالٍ لنظام الاسد ومحسوب على طائفة معينة.
السوري الجديد.. يوسف ابو خليل