استمر الصمت السوري طوال اربعين عاماً حتى استحقت سوريا بجدارة لقب «مملكة الصمت». وهذا نسج على منوال الكاتب العراقي المقيم في اميركا كنعان مكية الذي سمى عراق البعث وصدام حسين «جمهورية الصمت».
في سوريا البعث والاسد، وضعت الثورة حداً لاعوام الصمت المديدة وفجرت اشكالاً متفاوتة من التعبير الشعبي: من الغرافيتي واللافتات والكتابة على الجدران، علاوة على اشكال التعبير الفنية الاخرى مثل الهتافات والاغاني والتصوير والفيديوهات والافلام الوثائقية والتدوين. ولم يقتصر الامر على الفنانين والكتاب المعروفين بل طال كل شرائح المجتمع.
«الثقافة في زمن الحرب: التجربة السورية»، كانت موضوع ندوة ضمن فعاليات «ربيع بيروت» الذي تحييه مؤسسة سمير قصير في الذكرى العاشرة على اغتياله، وشارك فيها كل من سنا اليازجي والكاتب زياد ماجد والصحافي محمد علي الاتاسي.
وثقت سنا اليازجي من خلال موقع «الذاكرة الابداعية في الثورة السورية» أكثر من خمسة آلاف مادة منوعة من حيث الشكل والمضمون والقيمون عليها، تتناول تفاعل اصحابها مع الثورة السورية، ثقافيا وفنيا، منذ انطلاقة الثورة قبل اكثر اربعة اعوام، وصولا الى الواقع المأساوي اليوم.
ولاحظت اليازجي ان الحالة التعبيرية انتقلت من المكان النخبوي الى المكان الجماهيري، لانها استقت مواضيعها كلها من الواقع المعيش. فصلت اليازجي اشكال التعبير هذه كل على حدة. فاللافتات والغرافيتي والجدران هي الأشهر، علماً بأن الغرافيتي كان أكثر اشكال التعبير عرضة للقمع من خلال ملاحقة الكثير من البخاخين وقتلهم.
اما الكتابة على الجدران فكانت تأخذ اشكالا كوميدية احيانا لا تخلو من العمق، كحيطان سراقب التي وصلت الى العالمية، في حين كان السوريون أنفسهم لا يعرفون اين تقع سراقب. فن الكاريكاتير جمع بين الفنانين والناس العاديين، في حين تميزت مجموعة وحيدة بالقصص المصورة التي غطت الاحداث من بداية الثورة حتى عام 2013. وتميزت فنون الرسم والتصوير والنحت بالحضور النسائي. وفي ختام مداخلتها نوهت اليازجي بأن الجودة ليست معيارا الآن، وانما الاهم هي حالة الكلام، بل النطق، التي انتقل اليها السوريون جميعا.
من ناحيته، تناول الكاتب والاكاديمي ومؤلف كتاب «سوريا الثورة اليتيمة»، زياد ماجد، تطور اشكال التعبير تبعا لمراحل الثورة السورية على مدى اربع سنوات، وتحول الثورة الى لحظة تعبير فني كما الى لحظة بوح فردي، كأنما هي لحظة تعويض عن السكوت على مجزرة حماه في عام 1982.
اعتبر ماجد ان من المبكر اطلاق احكام على المعطى الثقافي العام الذي شهدناه في السنوات الاربع الماضية. فذلك يحتاج الى مسافة ووقت ونضج اكثر. ففي موضوع الرواية والشعر الثوري السوري، باستثناء تجارب محددة، لا نستطيع حتى الان الحديث عن رواية حرب او ثورة. فمعظم الاسماء التي نشرت هذا النوع كان لها حضورها قبل الثورة ومقاربتها للثورة عرضية في الرواية. لكن الوضع مختلف في السينما التي حققت نقلة نوعية لاسيما في أفلام التوثيق. اما الموسيقى فتميزت في السنتين الأوليين ثم تراجعت لاحقا، كعمل «نص تفاحة» وفرقة الدب السوري بعملها «لا يمل».
الدهشة هي عنوان المرحلة الأولى من انتاج الثورة الثقافي، ويمكن ان تختصر بسؤال «اين كان هؤلاء الناس الذين يبتكرون كل يوم شعارا ويتحايلون على الموت؟، اين كانت البلدات السورية التي كانت غائبة عن معرفة معظم السوريين كحيطان سراقب او لافتات كفرنبل؟».
بعد الدهشة المفاجئة اعيد اكتشاف سوريا وقوة الطاقات والمواهب والرغبة بتحدي الاستبداد، فانتقل السوريون الى مستوى آخر هو السخرية كسلاح ثقافي للنيل من هيبة الدكتاتور. وتمثلت هذه السخرية بالشعارات والغرافيتي وتناسل الصفحات الساخرة على الفضاء الازرق؛ مثل الثورة الصينية وغيرها. وتوقف ماجد عند مجزرة حماة بما هي ذكرى موروثة ومتنقلة. اذ ان العالم كان يفترض انه لن يسمح بتكرار تجربة حماة، ثم تبين ان المجزرة موجودة وتستمر لاسباب سياسية واستراتيجية وتقاطع مصالح لفترة طويلة. حالة الذهول من اجرام النظام ترافقت مع ذهول من صمت العالم والوقوف موقف المتفرج على سوريا، ما ادى الى ابتكار اعمال تخاطب العالم بلغة انسانية خرجت من اطار اللغة السورية ومفرداتها، وتمثلت في اعمال فنية كالرسم والتجريد واستلهمت الاعمال الكلاسيكية للكبار منطلقا لها.
توقف ماجد عند التدوين بحيث تحولت صفحة الافراد الى صفحات تدوين وبوح انساني «لأول مرة يكتب هذا الكم من الشهادات عن حماة التي سمعوا اخبارها من الاهل او الاقارب وترافقت مع كتابات من سجناء سابقين رووا فيها يومياتهم في السجن والاعتقال».
هكذا عمد السوريون الى نبش الذاكرة الفردية كنوع من علاج نفسي جماعي من خلال التعبير عن قمع وصمت سادا لفترة طويلة. لحظة الثورة كانت لحظة التمرد وهدم الخوف والسخرية والذهول والتنكيل بالدكتاتور.
استرجع ماجد المقاومة الثقافية منذ عام 1976 الى لحظة ربيع دمشق واندلاع الثورة السورية لاحقاً، فلاحظ انه لم يكن ثمة انقطاع في مقاومة المثقفين والثقافة، لكنها للمرة الاولى تأخذ هذاالامتداد الشعبي وتصبح بمتناول الالوف.
المداخلة الأخيرة كانت لمحمد علي الاتاسي الذي يملك تجربة غنية في صناعة افلام تتناول معارضين سوريين وعربا على غرار «ابن العم»، عن المعارض السوري رياض الترك و«في انتظار ابو زيد» عن المفكر المصري نصر حامد ابو زيد، وآخر افلامه «بلدنا الرهيب» صور فيه المفكر السوري ياسين الحاج صالح.
ركز الاتاسي في مداخلته على علاقة الثورة بالفن، مشبها الثورة السورية بطنجرة ضغط انفجرت لتفاجئ السوريين والعالم بكمية الابداع في مجالات عدة. وقال ان الجيل الجديد يملك لغته الخاصة وأدواته التعبيرية، وهو حاول ان يؤسس لقطيعة مع الاباء المؤسسين وهذا احد ابعاد الثورة.
اقتصرت اشكال التعبير في بداية الثورة على الرقص والغناء والفنون الشعبية.
كما ان غياب ميدان تحرير، كما في مصر، دفع بالسوريين الى خلق ميادينهم في القرى والاحياء للفت نظر العالم اليهم. النقطة الفاصلة برأي الاتاسي بدأت مع دخول النظام الى حماة في 2011 وتحول الثورة الى العسكرة، ما خلق تحديات جديدة انعكست على رؤية الفنانين والناشطين للمواجهة.
قطع حنجرة الشاب القاشوش كان بمنزلة نهاية مرحلة وبداية اخرى. «كانت لحظة طرح اسئلة وابتعاد عن المسلمات. كيف ننتج فنا حقيقيا يخاطب العالم؟ القيم الاخلاقية والثقافية لا تكفي لتأسيس فن او بناء ثقافة وان كانت لا تقوم من دونهما. موضوع الكيماوي كان نقطة تحول في شعور السوريين بخيانة العالم. بعدما اشبعوا نظريات عن الخط الاحمر تبين لهم ان موت الالاف في ليلة واحدة لم يهز جفن العالم. التحدي الحقيقي اصبح في تذكير العالم بانسانيته وليس تذكيرنا بانسانيتنا».
في ختام مداخلته نبه الاتاسي الى أن ثمة استحالة لدى الاسلاميين و«منحبكجية» النظام في انتاج ثقافة. لسبب وحيد انهم مسكونون بالمسلمات فيما الثقافة الفنية والنقدية تتطلب قدرة على مساءلة الذات والاخرين.
القبس – انديرا مطر
«الثقافة في زمن الحرب: التجربة السورية»، كانت موضوع ندوة ضمن فعاليات «ربيع بيروت» الذي تحييه مؤسسة سمير قصير في الذكرى العاشرة على اغتياله، وشارك فيها كل من سنا اليازجي والكاتب زياد ماجد والصحافي محمد علي الاتاسي.
وثقت سنا اليازجي من خلال موقع «الذاكرة الابداعية في الثورة السورية» أكثر من خمسة آلاف مادة منوعة من حيث الشكل والمضمون والقيمون عليها، تتناول تفاعل اصحابها مع الثورة السورية، ثقافيا وفنيا، منذ انطلاقة الثورة قبل اكثر اربعة اعوام، وصولا الى الواقع المأساوي اليوم.
ولاحظت اليازجي ان الحالة التعبيرية انتقلت من المكان النخبوي الى المكان الجماهيري، لانها استقت مواضيعها كلها من الواقع المعيش. فصلت اليازجي اشكال التعبير هذه كل على حدة. فاللافتات والغرافيتي والجدران هي الأشهر، علماً بأن الغرافيتي كان أكثر اشكال التعبير عرضة للقمع من خلال ملاحقة الكثير من البخاخين وقتلهم.
اما الكتابة على الجدران فكانت تأخذ اشكالا كوميدية احيانا لا تخلو من العمق، كحيطان سراقب التي وصلت الى العالمية، في حين كان السوريون أنفسهم لا يعرفون اين تقع سراقب. فن الكاريكاتير جمع بين الفنانين والناس العاديين، في حين تميزت مجموعة وحيدة بالقصص المصورة التي غطت الاحداث من بداية الثورة حتى عام 2013. وتميزت فنون الرسم والتصوير والنحت بالحضور النسائي. وفي ختام مداخلتها نوهت اليازجي بأن الجودة ليست معيارا الآن، وانما الاهم هي حالة الكلام، بل النطق، التي انتقل اليها السوريون جميعا.
من ناحيته، تناول الكاتب والاكاديمي ومؤلف كتاب «سوريا الثورة اليتيمة»، زياد ماجد، تطور اشكال التعبير تبعا لمراحل الثورة السورية على مدى اربع سنوات، وتحول الثورة الى لحظة تعبير فني كما الى لحظة بوح فردي، كأنما هي لحظة تعويض عن السكوت على مجزرة حماه في عام 1982.
اعتبر ماجد ان من المبكر اطلاق احكام على المعطى الثقافي العام الذي شهدناه في السنوات الاربع الماضية. فذلك يحتاج الى مسافة ووقت ونضج اكثر. ففي موضوع الرواية والشعر الثوري السوري، باستثناء تجارب محددة، لا نستطيع حتى الان الحديث عن رواية حرب او ثورة. فمعظم الاسماء التي نشرت هذا النوع كان لها حضورها قبل الثورة ومقاربتها للثورة عرضية في الرواية. لكن الوضع مختلف في السينما التي حققت نقلة نوعية لاسيما في أفلام التوثيق. اما الموسيقى فتميزت في السنتين الأوليين ثم تراجعت لاحقا، كعمل «نص تفاحة» وفرقة الدب السوري بعملها «لا يمل».
الدهشة هي عنوان المرحلة الأولى من انتاج الثورة الثقافي، ويمكن ان تختصر بسؤال «اين كان هؤلاء الناس الذين يبتكرون كل يوم شعارا ويتحايلون على الموت؟، اين كانت البلدات السورية التي كانت غائبة عن معرفة معظم السوريين كحيطان سراقب او لافتات كفرنبل؟».
بعد الدهشة المفاجئة اعيد اكتشاف سوريا وقوة الطاقات والمواهب والرغبة بتحدي الاستبداد، فانتقل السوريون الى مستوى آخر هو السخرية كسلاح ثقافي للنيل من هيبة الدكتاتور. وتمثلت هذه السخرية بالشعارات والغرافيتي وتناسل الصفحات الساخرة على الفضاء الازرق؛ مثل الثورة الصينية وغيرها. وتوقف ماجد عند مجزرة حماة بما هي ذكرى موروثة ومتنقلة. اذ ان العالم كان يفترض انه لن يسمح بتكرار تجربة حماة، ثم تبين ان المجزرة موجودة وتستمر لاسباب سياسية واستراتيجية وتقاطع مصالح لفترة طويلة. حالة الذهول من اجرام النظام ترافقت مع ذهول من صمت العالم والوقوف موقف المتفرج على سوريا، ما ادى الى ابتكار اعمال تخاطب العالم بلغة انسانية خرجت من اطار اللغة السورية ومفرداتها، وتمثلت في اعمال فنية كالرسم والتجريد واستلهمت الاعمال الكلاسيكية للكبار منطلقا لها.
توقف ماجد عند التدوين بحيث تحولت صفحة الافراد الى صفحات تدوين وبوح انساني «لأول مرة يكتب هذا الكم من الشهادات عن حماة التي سمعوا اخبارها من الاهل او الاقارب وترافقت مع كتابات من سجناء سابقين رووا فيها يومياتهم في السجن والاعتقال».
هكذا عمد السوريون الى نبش الذاكرة الفردية كنوع من علاج نفسي جماعي من خلال التعبير عن قمع وصمت سادا لفترة طويلة. لحظة الثورة كانت لحظة التمرد وهدم الخوف والسخرية والذهول والتنكيل بالدكتاتور.
استرجع ماجد المقاومة الثقافية منذ عام 1976 الى لحظة ربيع دمشق واندلاع الثورة السورية لاحقاً، فلاحظ انه لم يكن ثمة انقطاع في مقاومة المثقفين والثقافة، لكنها للمرة الاولى تأخذ هذاالامتداد الشعبي وتصبح بمتناول الالوف.
المداخلة الأخيرة كانت لمحمد علي الاتاسي الذي يملك تجربة غنية في صناعة افلام تتناول معارضين سوريين وعربا على غرار «ابن العم»، عن المعارض السوري رياض الترك و«في انتظار ابو زيد» عن المفكر المصري نصر حامد ابو زيد، وآخر افلامه «بلدنا الرهيب» صور فيه المفكر السوري ياسين الحاج صالح.
ركز الاتاسي في مداخلته على علاقة الثورة بالفن، مشبها الثورة السورية بطنجرة ضغط انفجرت لتفاجئ السوريين والعالم بكمية الابداع في مجالات عدة. وقال ان الجيل الجديد يملك لغته الخاصة وأدواته التعبيرية، وهو حاول ان يؤسس لقطيعة مع الاباء المؤسسين وهذا احد ابعاد الثورة.
اقتصرت اشكال التعبير في بداية الثورة على الرقص والغناء والفنون الشعبية.
كما ان غياب ميدان تحرير، كما في مصر، دفع بالسوريين الى خلق ميادينهم في القرى والاحياء للفت نظر العالم اليهم. النقطة الفاصلة برأي الاتاسي بدأت مع دخول النظام الى حماة في 2011 وتحول الثورة الى العسكرة، ما خلق تحديات جديدة انعكست على رؤية الفنانين والناشطين للمواجهة.
قطع حنجرة الشاب القاشوش كان بمنزلة نهاية مرحلة وبداية اخرى. «كانت لحظة طرح اسئلة وابتعاد عن المسلمات. كيف ننتج فنا حقيقيا يخاطب العالم؟ القيم الاخلاقية والثقافية لا تكفي لتأسيس فن او بناء ثقافة وان كانت لا تقوم من دونهما. موضوع الكيماوي كان نقطة تحول في شعور السوريين بخيانة العالم. بعدما اشبعوا نظريات عن الخط الاحمر تبين لهم ان موت الالاف في ليلة واحدة لم يهز جفن العالم. التحدي الحقيقي اصبح في تذكير العالم بانسانيته وليس تذكيرنا بانسانيتنا».
في ختام مداخلته نبه الاتاسي الى أن ثمة استحالة لدى الاسلاميين و«منحبكجية» النظام في انتاج ثقافة. لسبب وحيد انهم مسكونون بالمسلمات فيما الثقافة الفنية والنقدية تتطلب قدرة على مساءلة الذات والاخرين.
القبس – انديرا مطر