اقتحم الكثير من المخرجين في العالم ملحمة «جلجامش» مجرّبين إيصالها عبر الفضاء المسرحيّ – بالمعنى العريض – باحثين في الأسئلة التي اقترحتها الملحمة منذ نحو خمسة آلاف عام!! لأنّ هذا «النصّ» دوّن في الألف الثالثة قبل الميلاد، وهو أقدم ما أُنتج أدبيّاً من الفكر البشريّ، وما زالت أسئلته حيّة تنتظر، وربّما ستبقى ما بقي الإنسان ولو خارج الكرة الأرضيّة.
في ذروة من ذرا الملحمة يقع السؤال الجوهريّ الأزليّ حول الحياة والموت، والبحث في سرّ الخلود، من حيث إمكانيّة وجوده أصلاً، وكيفيّة الوصول إليه، وعبثيّة ذلك البحث أيضاً؛ فلا خلود بحسب الملحمة إلّا فيما قد تعمله. يمكنك أن تعيش لحظتك كما وجدت صاحبة الحانة، أو أن تغامر وتتحدّى الآلهة كما فعل «أنكيدو» ويمكن أن تسوّر مدينتك كما عمل واقتنع صاحب اسم الملحمة السومريّة الأصل. كلّ تلك الأسئلة وغيرها مازالت ملهمة في عمليّة خلق العرض بأدوات مستحدثة، باعتبار ضرورة مواجهة العصر –حقيقة- بما يساهم في معرفة الإنسان لنفسه أوّلاً، كطريق لمعرفة العالم من حوله تالياً.
شخصيّة جلجامش من الناحية الدراميّة كبطل مغرية للممثّل؛ فهو إله في ثلثيه وثلثه الباقي إنسان، وقد جسّدتها بعض العروض كامرأة؛ وبرّروا ذلك بأنّ علّة هذا البطل وجوديّة ولا تخصّ أحد الجنسين، وقُدّمت في تجارب أخرى بعدّة ممثلين لهذه الشخصيّة معاً كجوقة، معبّرين عن صوت تنوّع الإنسان، أو بالتناوب ليكوّن جلجامش مجموعة تشبه تنوّع الآراء تجاه قضيّة واحدة.
الصراعات الموجود في الملحمة ذات بنية فسيفسائيّة، فلكلّ لوح حبكة مستقلّة تتشابك فيها خطوط الفعل لكلّ شخصية مع الأخرى، ولأحداثها بدؤها وعقدتها وحلّها المستقلّة كأجزاء – لو أردت ذلك – والتي تشكّل وحدة متكاملة في آن؛ لذلك رأت بعض العروض أن تفصل موضوع الطوفان، مثلاً، عن الملحمة،ليس تقليلاً من أهمّيته، بل لكونه جزءاً يمكن تجاوزه ولا تتأثر تصاعديّة الحدث.
كذلك بعض مغامرات الصديقين في غابات الأرز، للسبب السابق، وحتّى اللقاء مع «سيدوري» صاحبة الحانة، وإن كان كلّ من هذه الأحداث يمكن أن يصلُح لعرض مسرحيّ لوحده بالمعنى الأرسطيّ، من حيث وحدة الفعل، وانطباق التعريف عليها كصراع وتلوّن، وجلال أو قدسيّة الشخصيّة كأن تكون من الآلهة أو مرتبطة بشكل ما معها. ولعلّ صراعات «عشتار» مع جلجامش تكوّن أوضحمجموعة من الأساطير التي تعكس أوضاعاً اجتماعيّة وسياسيّة كانت سائدة في فترة تدوين الملحمةيمكننا تناولها كوحدة منفصلة؛ لأنّها تحتوي عناصر المسرحيّة بالمعنى التقليديّ كتراجيديا، كعلّة البطل، والتطهير، وغيرها.
استثناء، نجد في الملحمة شخصيّة رئيسيّة بطوليّة بشريّة بالكامل، أوجدتها الآلهة لتقف ندّاً لجلجامش، إذ لا يوجد – عادة – أبطال في الملاحم من محض البشر، إنّهاشخصيّة «أنكيدو» فهو مخلوق من الطين، يعيش في البريّة كالوحوش، ومن ثمّ يُروّض بواسطة مومس مقدّسة ليصير إنساناً، ويصارع الطاغية جلجامش، ونتيجة لهذه المواجهة شبه الندّيّة تتكوّن الصداقة ولا نهائيّة المغامرة الإنسانيّة.
أنكيدو الذي لا يقف في وجهه شيء، يصادق ويرافق جلجامش في رحلة لا يصعقها إلّا الموت!!!
مرضُ ثمّ موت أنكيدو «ليأكله الدود» بعد أن يقتل ثور السماء، يفجّر مشاعر جلجامش ويدفع بعقله إلى التساؤل الأقصى؛ هل يمكن تفادي الموت؟ وكيف؟
الإجابة تأتي من خلال رحلة البحث لإيجاد نبتة الخلود! فقد حصل بطل الطوفان «أوتانبشتيم» على السرّ وهو تلك النبتة.
وياللعبث!
فقد وصل إليها جلجامش وحملها، لكن حيّة التراب أكلتها لتنال الخلود بدورها، بينما كان هو يروي عطشه من بئر ما.
وبتأكيد على العبث، تعود الملحمة إلى أوّلها لتتحدّث عن الأسوار الأجمل للمدينة:
«تأمّل أسوار أوروك، آجرّها، أساساتها!
هل ترى بناءً أجمل منه؟»
دورة الحياة هي الخالدة، وما نصنعه هو – فقط – الدليل على أنّنا كنّا وسنبقى.
بشار فستق