جريدة زيتون
دموعٌ… دموعٌ… دموع، وفي الديار موت وحرب وجوع.
أنا… أنا ملوحتي هي… هي بغضّ النظر عن عيونكم خضراء كانت أم سوداء، أم زرقاء.
أنا حليفكتم في أحزانكم، وفي الشديد من أفراحكم، ولكن في الأشدّ من فواجعكم أتجمّد في عيونكم أسىً عليكم، ما بيني وبين عيونكم خدّ وملح، وليس من طبعي أن أخون الملح.
أنا أنثويّة الطبع… ذكوريّة التطبّع، زرفني جلجامش دموعاً مرّة، حزناً على موت صديقه أنكيدو.
أنا من يطفئ حرائق مشاعركم ووجدانكم عندما تعجز الكلمات عن إطفائها، يستنجد بي الصغار إمّا لبراءتهم أو تخابثاً لتبرئتهم وتحقيق أهدافهم، حينها أضحك وأتذكّر دموع التماسيح.
أنا لا أتوانى عن إسعاف عاشقة انفطر قلبها من نصل خيانة أو شدّة قسوة مَن قحطتْ عينه، فأنا أمقتُ عيون قساة القلوب وأدرك (أنّ العين التي لا تبكي لا تبصر من الحياة شيء)، ومع ذلك أحافظ على نظافة عيون الجميع ورطوبتها بمنّ، ولا أدعها تتّسخ وتجفّ ومع تقدّم العمر وتآكل شغاف القلب وحوافه لما تعرّض له في سنينه الطويلة من ضربات عواصف الألم، يصبح القلب أكثر تأهّباً ليكثّف آلام حزنه ويرسلها على هيئة دموع.
أنا إنسانيّة النزعة والنزوع، لا أعرف العنصريّة ولا الطائفيّة، لا أتحالف مع قوميّة أو عرق أو دين، ولا يعنيني غنيّكم أو فقيركم، وحتّى مَن فَقدَ بصره، وكثيراً ما يستنجد بي غير بني البشر فلا أبخل، أحاول أن أمشي على وجناتكم برفقٍ دون أن أخدشها، وفي أغلب الأحيان أفضّل أن تمسحونني برفقٍ، وقمّة نشوتي أن تمتدّ يدّ مَن تحبّون لتمسحني عن وجناتكم، وإن مسحتموني بغير أيديكم ألّا ترمونني في الأماكن القذرة، لأنّني طهركم، أكره أن أفشي بسرّكم وأصدّره لمن حولكم.
دائماً أفضّل التحالف مع المسحوقين والمقهورين، وأعرف أنّني قد لا أقدّم لهم شيئاً يُعتدّ به، لكن وبالتأكيد أفرّج بعض كربهم وأهدّئ لواعجهم ولو إلى حين، ويوم أن انفصلت السماء عن توءمها الأرض فاضت دموعهما فكانت بحاراً ملوحتها بعضٌ من ملوحتي.
أنا حليفة أمّ ودّعتْ ابنها عندما غادرها إلى البعيد، لكنّها احتبستني أمامه كيلا تؤلمه، وبعد أن غادر وأغلقت باب بيتها ذرفت منّي الكثير.
استمدّ صفتي منكم، فالبخيل قد يستنجد بي لخسارة في تجارته، أنجده لكنّي لا أحترمه، وأحترم دموع العشّاق والمكلومين.
تتباهون أحياناً بجفائي وتدّعون أنّكم أكبر من أن أزور عيونكم، وتصفون مَن أحضر في عيونه – لأصغر المشاهد المؤلمة – بالمسكين والضعيف متناسين أنّني رقّة قلب ورهافة ضمير، وبصراحة أنا وإن نجدت الجميع أحتفظ بتقديري واحترامي لذاتي، فلا أبوح سرّاً ولا أخون مستنجداً.
في زمن المآسي يستحضرني البشر كثيراً لأكون عوناً لهم على فواجعهم، كنت حاضرة
في بداية ثورتكم، سرّرت كثيراً وأنتم تعرسون لحريّتكم فكنتُ دموع فرح في الكثير من العيون، صعدت بكم قمم النشوة، فأنا حاضرة في القمّة المختلطة من مشاعركم، كنت حاضرة في مقل كلّ الأمّهات اللواتي هربنَ من بيوتهنّ خشية على أطفالهنّ من الموت، يعتصرني الحزن إن رآني طفل في عيون أمّه وبكى معها وعليها.
في خوف الأطفال أنا، وهم يتراكضون تحت طائرة هرباً من الموت.
أخالط زغاريد النسوة وصراخهنّ في كلّ الفواجع، أقطع الكلام وأعمل على اضطراب التنفّس وأشوّش على كلّ مَن يحاول مشاركتي، تحالفتُ مع المرأة منذ أن أصبح ظلمها مركّباً في تجمّعات قمعها وذلّها وقهرها.
أنا نديمة كلّ الأمهات السوريّات في شدائد مصائبهنّ إن انهدم بيت أو أعيق طفل أساهر قلق أمّ على أبنائها وهي لا تعرف أين وكيف ينامون؟ وتسمع أصوات الحرب وتعرف أنّهم في أتونها وإن فجعت بعزيز منهم أرتبك كثيراً فتارة أتجمّد في عيونها وأخرى أنهمر بغزارة وأشفق على عيونها عندما تعيا من شدّة البكاء وأحيانا أبكيها وترسلني روحها دموعاً إلى وجنتي عزيزها وهي تطبع عليهما آخر قبلات قلبها لتبقى آخر الآثار منها عليه، ترافقه في زفّته إلى المقبرة، مثواه الأخير وهي تصرخ بكلّ خلاياها، كلّ آلام ولادات نساء العالم لا تساوي ألم الموت، تزغرد وتدمع له وعليه.
فزغاريد الحزن نحيب دموع أو هي دموع من غير مصدرها، تهيل عليه دموعها (فالدموع هي ذرّات التراب الأخيرة التي تجلّل الميّت وتقول: إنّه انتهى… انتهى).
أسعد شلاش
