لم يكن الفنان التشكيلي /غسان السباعي/ أكثر من مستمع لما يدور فيما حوله من أحاديث ونقاشات لأي عمل فني يخصّ فنون التصوير أو أيّ حوارٍ يدور حول الإبداعات الفنية والتي كان يتابعها بشغف واهتمام، فلقد كان دائما يفضّل أن يكون آخر المتحدثين، ذلك لأنه يثق بنفسه وبفكره وبجرأته على إبداء الرأي حول الموضوع المطروح للمناقشة، سواء أكان تقييما لمعرضٍ أو للوحةٍ فنية أو لمحاضرة ثقافية. شأنه بذلك شأن الفنان فاتح المدرس المشهود له بصراحته. وكنت أعتبرهما توءمان متفرّدان في الصّراحة الجارحة أحيانا والبعيدة عن المجاملة والمداهنة التي اعتاد معظم الفنانين والمبدعين عليها خلال لقاءاتهم الثقافية المتكررة.
ولعلّي تأثرت بهذا السلوك الى حدّ كبير في مناقشاتي التي كثيراً ما أفقدتني بعض الأصدقاء الذين لايرتضون في مجتمعاتهم الاّ المجاملة والدبلوماسية الكاذبة.
ومهما يكن من أمر فلقد حرص الفنان التشكيلي غسان السباعي أن يكون دائماً صادق الكلمة والريشة معاً، في إبداعاته الفنية التي نجدها في رسوماته على صفحات المجلات وأغلفة الكتب، والتي كانت تحكي لنا الرواية أو القصة ونستوعبها قبل قراءتها، ذلك لأنّه اعتمد على المدرسة التعبيرية في رسم موضوعاته ولوحاته الزيتية، مبتعدا عن الكلاسيكية الفوتوغرافية، وليضيف على مواضيعه ماتجود به قريحته وعصارة تفكيره، لذلك كنّا نجد أنفسنا نغور داخل اللّوحة، ونستوقفها بدلاً من أن تستوقفنا نحن لفترة من الزمن، نبحث فيها عن شيءٍ مفقودٍ سرعان مانجده ونتفهّمه، وكأنه خرج من فكرنا نحن، وشاركناه بما يريد أن ينقله لنا ويعبر عنه بلغةٍ ملوّنةٍ تنقلنا قبل كل شيء الى ألوان «رامبرانت الهولندي» ولوحاته المشعة بالنور رغم قتامة أجزاءٍ واسعةٍ من سطوح لوحاته الخالدة.
لعل دراسته الجامعية في الاسكندرية بمصر لم تشبع طموحه الفني فأراد إغناء ثقافته ومزاوجتها بالفنون الأوربية الحديثة حيث قصد أعظم الجامعات الفرنسية في باريس، حاملاً معه سحر الشرق العربي ليمزجه بحداثة الفنون الغربية الوافدة أواسط القرن الماضي، ليعود بعدها الى وطنه السوري محمّلاً بتراث مكتسبٍ أضاف على ماكان يكتنزه سابقاً من الحضارة العربية وفنونها الشرقية.
لقد وقف مع رواد النهضة الفنية السورية وساهم بتأسيس تيار فني متطور مستمد من التجربة العالمية، في مزج التعبير مع تجريد مبسط لايبتعد أبدا ولاينسلخ عن التشكيل المفهوم لدى المشاهد لأعماله الفنية.
امتازت لوحاته بضبابية الألوان وإسالتها دون التحديد بخطوط مرسومة كما في معظم أعمال الفنانين التشكيليين من أبناء جيله، فاعتمد تجاور الألوان وتداخلها بدرجات مختلفة، وحرفية عالية للوصول الى الظّـلّ والنور، والى المنظور الوهمي لتحقيق البعد الثالث والعمق في اللوحة الملساء، حيث لم يكن يتآلف مع سماكة الألوان وكثافتها وهذا ماكان يميزه عن كثير من أبناء جيله.
عند الوقوف والتأمّل لمعظم لوحاته وعلى امتداد فترة إبداعاته نلاحظ أن تشخيص الإنسان لم يغب عن لوحاته أبداً، معتمدا على إظهار المرأة أكثر من الرجل، ربما لشعوره بأنها الأمّ والزّوجة ووهي نبع العطاء، كما أنّ رسوم النساء عنده كانت تظهر بوقفات رصينة متماسكة ومعبرة.
لم يكن يوماً يرسم لهدف ماديّ أو تسويقيّ في الصالات أوفي الأماكن السياحية، وإنّما كان يطرح أفكاره الهادفة لإيصال رسالته الفنية الملتزمة والقريبة من مجتمعه، فأراد التعبير عنها من خلال خطوط وألوان ورسوم موجهة هادفة، لذلك فقد امتازت اعماله بأنها تحمل مفاهيما فكريّة رفيعة المستوى.
لقد كان شديد الحساسية الصّامتة، فاختزن الحزن والألم الشديد على مدينته التي ولد وترعرع فيها (حمص العديّة)واعتصر الألم قلبه وبكى طويلاً عندما شاهد أبنيتها وقباب جامع خالد بن الوليد تتهدم فوق رؤوس مواطنيه بواسطة القذائف الحربية.
عند ذلك..غادرنا ورحل الى جوار ربه في شباط العام الحالي..
فبكت عليه ســوريّة.وستبكيه طويلاً.
عبد الرزاق كنجو