ليس من السهل أن نقوم بتعريف الشائعة التي تعد من أقوى أسلحة الحرب النفسية وتحمل الكثير من المعاني ويعرف الشائعة كل من جولدن البورت وليوبوستمان. في كتابهما سيكولوجية الشائعة بأنها «اصطلاح يطلق على رأي موضوعي معين مطروح كي يؤمن به من يسمعه» وهي تنتقل عادة من شخص إلى أخر عن طريق الكلمة الشفهية دون أن يتطلب ذلك مستوى من البرهان أو الدليل.
يمتلئ العالم الافتراضي بشتى وسائله وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي بين السوريين بعشرات القصص والشائعات التي تنشر بشكل شبه يومي، وتمس أحداثا مثل التنبؤ بالهجمات العسكرية أو المداهمات وارتفاع الأسعار وانشقاق شخصيات سياسية واستقالة أخرى، ويتناقل مستخدمو مواقع التواصل هذه الشائعات على أنها أخبار ودون التحقق من صحتها أو من مصدرها لتنقل الرواية من صفة شائعة إلى صفة حقيقة في أذهان المتلقي.
كثرة الشائعات التي انتشرت خلال سنوات الثورة السورية دفع العديد من النشطاء الى انشاء مجموعات وغرف اخبار على مواقع التواصل الاجتماعي للتحقق من الخبر قبل نشره وتداوله ومع ذلك لم يحد هذا الامر من انتشار الكثير من الشائعات بين فينة وأخرى سواء في أوساط المعارضة أو أوساط الموالية للنظام.
تختلف الأسباب التي تدفع مؤلفي الشائعات لاختلاقها، فحسب بعض التحليلات هناك أيادي خفية تسهم باختلاق ونشر هذه الشائعات، وتهدف إلى خلق حقيقة تقنع العقل الباطن للمتلقي بمصداقية الحدث الوهمي، والأسباب وراء ذلك كثيرة، فمنها السياسي ومنها الترهيب والترغيب ومنها وهو الاهم استخدام الشائعة كجزء من الحرب النفسية في مجتمع ما.
أما الاسباب التي تدفع مروجي الشائعات لتناقلها , فيمكن تلخيصها برغبتهم بان يكونوا جزءا من القصة التي ربما تكون حقيقية ، واندفاعهم الشديد لنقل هذا السبق الخبري و تبنيه .
تترك الشائعات أثرا كبيرا لدى المتلقي , ويزداد اثرها بازدياد عدد متداوليها ومروجيها , تتضخم الشائعة في المجتمع لتصبح الحديث الشاغل لمعظم الناس , ومع تضخم هذه الشائعة تزداد تأثيراتها سلبا أو ايجابا على المتلقي , لتخلق في النهاية حالة عامة ابتدأت بقصة كاذبة ثم تحولت إلى حقيقة وفرضت نفسها بشكل تدريجي كواقع .
برعت الانظمة الاستبدادية في استعمال الشائعات كعنصر اساسي من عناصر الترويج لفكرة معينة أو خلق حالة عامة في المجتمع، تهدف من خلالها إلى اقناع الشعب بحجم النعيم الذي يعيشه في ظل الحاكم الأبدي مخلص الشعوب ومحقق احلامها، وان اي أفكار ممكن ان تراود الذهن بخلاف ذلك هي من الوسواسات الشيطانية.
وفي سوريا الثورة، كانت الاشاعات دائمة الحضور، في كل حدث ومحفل، وانطلقت مع انطلاق الحراك الثوري السلمي، حيث روج النظام وعبر وسائل اعلامه الرسمية الاف الشائعات ومنها: « حبوب الهلوسة التي توزع على المتظاهرين «، « المتظاهرون يرفعون العلم الاسرائيلي في حي بابا السباع بحمص «، « مندسين «، « مؤامرة كونية «، « سلفيين «
هدفت جميع هذه الشائعات إلى النيل من كرامة المتظاهرين، والتحريض ضدهم من خلال الشائعات التي تضخ الكره الطائفي، وترسيخ مفهوم المؤامرة التي تستهدف ايديولوجيا المقاومة والممانعة.
كما اعتمد المتظاهرون ايضا على إطلاق الشائعات بكثرة، حيث روجوا الكثير منها،
« النظام يتهاوى «، « مقتل ماهر الاسد «، « فرار الرئيس وعائلته إلى دولة اوربية «، « انشقاقات واشتباكات في القصر الجمهوري بدمشق «، « انارة القصر الجمهوري تطفئ لأول مرة منذ 30 عام «
هدفت جميع هذه الشائعات إلى زيادة عدد المنشقين عن النظام أولا وبث الخوف في صفوف المؤيدين ثانيا، كما اسهمت في الكثير من الاحيان بضخ جرعات من الأمل بسقوط النظام سريعا.
رافقت الشائعات مراحل الثورة السورية وتطورت بتطورها، وشكلت في بعض الاحداث جزءا هاما من استراتيجية الحرب، ومن هذه الاحداث نذكر:
_ «مئات الاستشهاديين «، تقدم جيش الفتح باتجاه مدينة ادلب، حيث عمد جيش الفتح إلى اطلاق شائعة تفيد بجهوزية «مئات الاستشهاديين الذين ينتظرون الأوامر» ليقوموا باستهداف مواقع وتحصينات قوات النظام، تركت هذه الشائعة اثرا كبيرا في صفوف قوات النظام والمليشيات المقاتلة معه , أدت إلى انهيار حقيقي في معنويات المقاتلين , وكان لذلك اثرا كبيرا في سرعة تحرير مدينة ادلب .
_ « داعش تتقدم « , اطلق النظام شائعة تفيد بتقدم تنظيم داعش باتجاه مدينة حماه , و أرفق هذه الشائعة بتحركات لقواته في المدينة و بيانات رسمية , انتشرت الشائعة في صفوف المدنيين , و زرعت رعبا كبيرا في قلوبهم , أسهمت هذه الشائعة بانضمام عدد كبير من الشباب الى صفوف قوات النظام و قوات الدفاع الوطني , وبحسب ناشطي المدينة , وصل عدد المتطوعين اثر هذه الاشاعة إلى قرابة 270 شابا خلال 4 ايام , هذا الرقم الذي عجز النظام عن تحقيقه في المدينة طيلة اشهر , نجح ومن خلال شائعة بذلك , وعزز تعداد قواته الموجودة في المدينة بهدف تعويض النقص الحاصل في العنصر البشري لديه .
اطلاق الشائعات لم يقتصر على النظام و الثوار , بل اسهمت ايضا الفئات التي رفضت الانضواء تحت أي من الصفين في اطلاقها , وكان الهدف الابرز لها , هو خلق حالة عامة تبرر عدم مشاركتهم في الحراك الثوري , ورغبتهم في انهاء النزاع , واقناع انفسهم بانها ليست ثورة ولا مؤامرة , بل هو نزاع مسلح على السلطة , ويجب على الجميع عدم المشاركة به , ومن هذه الشائعات التي لا تكاد تغيب حتى تعاود الظهور ,
« نهايتها تبويس شوارب «، « الحل السلمي «، « الدولة العلوية «، « التقسيم «، « حكومة مشتركة « وغيرها الكثير من الشائعات التي تهدف إلى نزع صفة الثورة عن الحراك والباسها ثوب النزاع السلطوي لا أكثر.
ان التأمل في الاثار الناتجة عن الشائعات يدفعنا حقا إلى التساؤل عن مصدر وهدف اطلاقها، فمن حيث المصدر غالبا ما نصل إلى طريق مسدود عند البحث عن المصدر الحقيقي لها وبساطة اللغة المعتمدة في بث وترويج الاشاعة تضيف إلى الموضوع تساؤلات أكثر حيرة. ومن حيث التأثير، تركت العديد من الشائعات تأثيرات ايجابية في الحالة العامة لدى المتلقي، وأسهمت أخرى في تحريف كامل لمسار الراي العام أو الحدث. فهل يا ترى تعتبر الشائعات في زمن الحروب حالة شعبية ناتجة عن كثرة الاحداث في الأوضاع الراهنة أم هي أم لعبة مخابراتية لتحقيق أهداف معينة؟
مما يغلب على الطبيعة البشرية في كينونتها وآلية تفكيرها أنه حين تريد أن تبدي رأياً في موضوع ما, أو أن تتخذ موقفاً تجاه أي حدث يصادفك ويتطلب منك الخروج من دائرة الصمت, فإن ذلك يحتاج إلى الكثير من العوامل التي تمكنك من تأطير رأيك بالموضوعية ومنحه صفة المنطقية.
فهذا الموقف أو الرأي لابد أن لا يكون محاصراً بأسباب من الخوف و القلق والتوتر, وكذلك أن لا يكون دافعه المنفعة التي من الممكن أن تتبلور فيما يسمى التحيز إلى غريزة البقاء
حيث يكون الفرد ضمن خطر يهدد حياته وحياة الكثيرين ممن هم حوله مما يجعل هاجسه المهمين الحفاظ على الوجود, وهذا ما يجرد موقفه من الموضوعية والمنطقية.
وعموماً يتجلى ذلك في المواقف التي يتخذها الإنسان الغارق في بؤرة الحرب.فتكون ردة فعله مجسدة لموقف مدني تحاصره حرب لا يشارك فيها غير أنه يعاني من نتائجها,
وهو ما يختلف عن مواقف المنخرطين في النزاع المسلح أو موقف المؤيدين والمعارضين, لذا ليس بوسعنا إدراج موقفه ضمن أيديولوجيا معينة قد تدفعه إلى التعصب تجاه أفكار تؤيد أو تعارض, فتخضع لحجج المنطق والتي تساعد صاحبها في إقناع الطرف الآخر بصواب رأيه أو تقنع الطرف الثالث الذي يحكم على الصراع بين الطرفين,
في حين يبقى موقف الفرد المدني متذبذباً نابعاً من خوف متفاقم يحكمه التشتت اللامنطقي.
ومثل هذه البدهيات المتعارف عليها تغيب اليوم عن إدراك الوسط الفكري السوري سواء أكان في الداخل أم في الخارج,
ففي الوقت الذي تغلب فيه الموضوعية على مواقف السوريين في الخارج وهي موضوعية تنهض على مشهدية واضحة يمكن اعتبارها ثلاثية الأبعاد أية رؤية شاملة تخضع للمنطق المجرد من عوامل الخوف وقلق المصير الوجودي في تحديد الأسباب التي أدت إلى النتائج الدموية التي آلت إليها الحرب في سوريا,
نجد أن مواقف من هم في الداخل تتأسس على ضرورة الحفاظ على بقائهم الآني, فتغيب عن مواقفهم المشهدية الكاملة للأحداث, وتتجرد من منطق أن غيرهم أيضاً في أماكن أخرى من سوريا يتعرضون لموت شبيه. ربما لأنهم عاجزون عن التخلص من هذا الخوف, فمن هو خائف ومحاصر بأسباب الموت اليومي العبثي لا يمكنه أن ينجد الآخر, بل في كثير من الأحيان قد يرى في هذا الآخر سبباً لموته.
هي جدلية الموت في الحرب التي تحكم هذه المواقف. فنادراً ما تجد مواقفاً موضوعية لدى الأطراف المدنية المتواجدة سواء في مناطق النظام أم في مناطق المعارضة باتجاه بعضهم البعض أو باتجاه ما يصيبهم من موت ودمار.
والمفجع أن كلٍّ من هذين الطرفين المدنيين ليس بوسعه اتخاذ قرار الرحيل تحت وطأة الخوف من التشرد والنزوح واللجوء فتبقى غريزة البقاء الآنية مهيمنة على آلية التفكيرالتي تبلور مواقفه.
وفي بقائه الجبري هذا تغيب مفاهيم الثورة الأخلاقية في تطور الأحداث وتضمحل منطقية المواقف الإنسانية العليا حيث بات يصنفون لدى كلٍّ من الطرفين تحت اسم »البيئة الحاضنة», ويتم استباحت حياته وفق هذا التصنيف من قبل الذين يملكون قرار استخدام السلاح.
يبقى من هو في الخارج القادر الوحيد على رؤية الأمور بموضوعية كما ذكرنا سابقاً, فموقفه نابع عن اطمئنان نفسي بشكل أو بآخر يعود إلى سبات غريزة البقاء لديه, غير أنه من المؤلم أن تجده يطالب من هم في الداخل باتخاذ مواقف موضوعية لن توقف الحرب لكنها ضرورية في إنصاف الواقع السوري الدموي.
في حين يعاني هذا الأخير من عجز متفاقم وإرهاق قد تكدس يوماً بعد يوم على عاتقه ليبقى عالقاً في دوامة الموت اللامتناهية, يتخبط في مواقفه النابعة من خوفه, فتجده تائهاً لا يستطيع التمييز بين عدوه و صديقه, ولا يمتلك قدرة الإدراك التي توضح له إن كان أداة لأصحاب القرار أو ذريعة لهم. لم يعد يهمه سوى أن يبقى على قيد الحياة أطول فترة ممكنة.
داليا معلوف